Al-Quds Al-Arabi

حتى ثمار اليقطين ودّعته

- ٭ شاعرة وإعلامية بحرينية

بين أجنحة الكتب في المعارض العربية، يتميز جناح تتوسط حبات اليقطين العملاقــة فيه رفوف الكتــب ذات الأغلفة المبهجة، والعناويــ­ن القوية، التي لها وقع الــزلازل أحيانا. ذاك هو جناح الناشــر والصحافي رياض الريس. جناح يشــبهه، في سحره الخاص ليس كناشــر فقط، بل كصحافي، أو «ورّاق» كما يحب أن يسمي نفسه...

لقد حلّ موســم اليقطين.. يا للصدف العجيبة، وأنا عائدة إلى البيت، فكرت أن أقتنــي يقطينة وأزين بهــا البيت قبل أن أحوّلها إلى طبــق لذيذ. خطر ببالي «الريّــس» مباشــرة، فكرت فيه طيلــة الطريق، لأفاجأ بخبــر وفاته من صديقة عزيزة جاءني صوتها مخنوقا، ومبللا بالدموع. هل أخبركم كيف انشطر قلبي إلــى نصفين؟ كيف هوى قلبي على البلاط فتبعثر مثل يقطينة ســقطت من علوٍّ شــاهق؟ هل أخبركم عن مقدار حزني لغياب هذا الرّجل؟ أم عن مقدار حبي له وتقديري لشــخصه وتاريخه؟ هل أخبركم كيف نختلف مع مثقف ونبقى على تواصل روحي معه؟ نشتاقه ونهاب الاقتراب منه، نتابعه، فنفرح حين يفرح، ونحزن حين يحزن، نبقى على مرمى رؤيته من بعيد، بدون إرباكه بحضورنا.

هكذا كانت مشــاعري نحو ناشري الصحافي والكاتب رياض الريس. كان بمرتبــة صديق، لكن مع بعــض المســافات، كان أيضا بمرتبة معلّــم، كوني لم أكــف أبدا من التّعلم منه. علاقتي به فيها الكثير من الاحترام والهيبة، فقد كان عملاقا فــي نظري حتى حين يطلق نكته وســخريته اللاذعة على طريقته، كان بودي أن أكون أقرب، لكن مســافات طويلة من التاريخ والتجارب والجغرافيا فصلتنــا. فظلّ متربّعــا على قلبي كمثل أعلى، في تقديســه للحرية، وإخلاصه لنفسه، ومبادئه، وقرائه.

مســاء السبت، في السادس والعشرين من ســبتمبر/أيلول، تشكّل الحزن ســريعا وكثيفا مثل عاصفة مفاجئة، والتهمنــي دفعة واحدة. وكمن ضاع في أدغال وســط العاصفة، لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل. هل عشــتم تجربة العجز عن الكتابة عن شــخص تحبونه كثيرا؟ هذا ما حدث لي فجأة، أمســكت هاتفي لأكتب كلمة رثاء، فغادرتني الكلمات، أصبت بصدمة مســح لامســت دماغي، فإذا بي أجهل اللغة والكلمات. ماذا سأكتب؟ لا شــيء يخطــر ببالي، فقــد كان أكبر مــن أي كلام يقال عنــه، تعدّد رياض الريّس في الصور المرســومة له، ســواء من طرف من يحبه أو من لا يحبه. لكن الجميع متفق على احترامه. مخيف؟ أي نعم كلمته مخيفة، أرعبت كثيرين، لكنّه رجل ينبض بالطيبة، بســيط ومتواضع. أحدهم قال لي عنه ذات يوم أنه ليس مخيفا، بــل يهابه الجميع لأنه لا يخاف، وليس متمردا، بل صادقا مع نفســه، وليس مغامرا، بل عاشــقا للحرية. لم ينتمِ لحزب سياســي، ولا لميليشــيا على رأيــه، ولا لفريق رياضــي، ولا لفريق فوتبول، هو فرد يحمــل قلما. هكذا يقدّم نفســه، مضيفا أنه «قارئ محترف» يقرأ الجرائد، الكثير من السياســة، ويقرأ الكتب. مارس النشر لأنه شغفه، فعل ذلك مستمتعا، لا أحد موّله، ولا هو طلب من أحدهم تمويله، يروي حياته بهذه البســاطة المبهــرة، فلا نجد أمامها كلمة نقولهــا. أغلــق أفواهنا جميعا، حتى لا نخترع له الإضافات التي يحب عشــاق التأبينيات إضافتها.

خريــج اقتصاد في إحــدى الجامعات البريطانية، لكنــه أخفق في أن يكون صحافي إقتصاد، يقول إنه «حيوان سياســة» يســتعمل مصطلحات صادمة وطريفة تخصه، ويعترف بفشــله، كما يجب أن يفعل أي شخص يصبح قدوة فــي ما بعــد لأجيال لا تنتهي. يقول إنــه مؤمن بالقومية العربيــة، وأحتار وأنا أستعيد طريقته في طرح قضايا العرب، وتحليلاته كيف أنّه دقيق مثل عباقرة الفكر الغربي. لا شــيء فيه «عربي « كما عهدنا العروبة، فهو إنســان مســتقيم في تعاطيه مع من حوله. في خلال لقاءات عدة جمعتنا، من بينها لقائي المتلفز معه، أبهرني بصراحته التي لا حدود لها، فلا شــيء مــوارب عنده، ولا منطقة وســطى لكســب الجميع، ثمة خســائر أمام كل خياراتنا، وهــو رجل لم تخفه الخســارات أبدا. عاش شــغفه حتى الثمالة. حديثه لا يُمَلّ. سيل من الحكايات والحكم ووجهات النظر العميقة، تنســاب من بين شفتيه، متبسم وضاحك. لا مجال لاستحضار صورته إلاّ وضحكته مرافقة لملامحه.

فــي احتفاء خاص بصدور كتابي «أعطيت المرآة ظهري» بالغ في كرمه، دعا من أحبهم، وأحاطني بكثير من الفرح. وأكّد الجميع «هذا هو رياض».. نعم نحن نحب أن نذكر محاســن موتانا، لكن تحضرني عبارته الشهيرة التي أخذها عن الإنكليز «إن كل كِتاب يحرق يضيء العالم» وهو في موته كأنّما ولد من جديد، فانبعــث منــه كل هذا النور، انبعــث تاريخه، وبرزت مؤلفاتــه، وأقبل كثيرون على مشــاهدة برامج حلّ ضيفا عليها. اســم رياض الريــس قديم في ذاكرتي، من أيام «النّاقد» ونحن نتلقفها بشغف في البحرين، كانت مرجعا بالنسبة لنا كطلبــة، وحتى حين غابت وعادت بثوب خفيف مختلف، تحت عنوان «النقّاد» تلقفناهــا بحب، رغــم أنها لا تحمل البحــث العلمي والمقال الرّصــن، لكن كان عندهــا كاركتير، وكانت ثرية بمواضيع النميمــة، ومنوعة ومغرية وجميلة، لم تخرج أبدا عن إطارها الثقافي الثقيل.

تركت مجلّة النّاقد أثرا كبيرا في تكويني، ولعلّ من أجمل مفاجآت القدر لي أني بعدها بســنوات سألتقي صاحبها، وســيكون أول شخص من غير الأهل والأقارب سيلفظ اسمي بالطريقة الصحيحة «perveen ». وسأخبره بما فعلت بي «النّاقد» وسيخبرني الكثير عن مشواره نحوها. مفتخرا بها وبالعدد الكبير من الكُتّاب الذين اكشتفتْهم، وقدمتْهم، حوالي 1200 كاتب، و40 رساما، بعض هؤلاء الرســامين ســألتقيهم خلال مشــواري الإعلامي، وأدرك أن لا أحد كان سيمنحهم فرصتهم الثمينة غير رجل نبيل مثل رياض الريس.

منذ ســنوات أصبح كل شــيء يمضي في انحدار، رغــم تزاحم الفضائيات والمنابــر الإعلاميــ­ة، لقــد قال لي فــي لقــاء منذ ســنوات «الصحافــة انتهت» وشــرح بإســهاب أســباب ذلك، وها قد غادر بعد أن بلغنا هــذه المرحلة، حيث تقف الصحافة الجادّة على شــفا حفرة من الهاوية. أدرك بحاســته القوية أن الحريــات في تقلص. ومع هذا لا شــيء هزمه غير المرض، ظلّ «ريّس» نفســه، لا رئيــس عليــه، ظــل «النّاقــد» الذي لا تهمــه لائمة لائــم. قال ما يريــد ورحل. تابعــتُ موكب ســفره الأخير عبر مقطع فيديو تقاســمه الأصدقــاء وهو يودّع شــارع الحمرا، متجها إلى مقبرة قصقــص، فبكيت، هو الذي كره هذا الانفجار التكنولوجي، لم يجد محبوه ســواه لتوديعــه من خلاله. لكأنّه جاب العالم كلّه فــي تلك اللحظــات القليلة، تماما كما كانــت حياته ذات يــوم، فعانقه الأحرار بعيونهــم في كل مــكان مودعين. اختطفه فيروس كورونا، الذي شــلّ حركتنا طيلــة هذا العــام، كما اختطــف كثيرين. طعنة فــي العمق. لقــد صدّقنا أن هذا الشرير يقف أمام أنوفنا في تحدٍّ وقح. فكيف نواجهه؟

بعــد نوبــة بكاء حــادّة، تذكّــرت يقطينات ريــاض الريّس، فابتســمت وأنا أشــكره لأنه ترك لنا حكمة علاجيــة قوية لمقاومة كورونا. لقــد كان رحمه الله عاشــقا للمأكولات الفاخــرة، وربما اليقطينة بالنســبة له رمز للتفــرّد، وإثارة انتبــاه زوار المعــارض، وربما لهــا معنى آخر مرتبــط بقيمتهــا الغذائية، لكني متأكــدة أنهــا تغلغلت بــن المكونــات الجمالية لذوقــه من خــال ثقافته التي اكتســبها من الأدب والثقافة الإنكليزيي­ن. إذ يحلُّ الخريف فيحل موســم ثمرة اليقطين، وتحل المواســم الأدبية، واحتفالات هلاوين، والأفراح الخريفية التي تشهد قطاف الكثير من الثمار.

يحتفل العالم بيوم اليقطين يومين قبل مولده في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر/تشــرين الأول، وهــذه صدفة أخرى طريفة، ســتظلّ عالقة في ذهني، تذكرني بروحه الحلوة، وغنى حضوره، وقوّة ذخائره لمواجهة قســوة الشتاء المقبل...

وحتى إن نســينا تلك التواريخ التي تختصر محطات حياته، ستذكرنا ثمار اليقطين بتربعه على عرش معارض الكتاب، ولســوف تذكرنا بيوم غيابه، فقد أبت إلاّ أن تودعه مثلما ودّعه كتّــاب ومثقفون وفنانون بقلوب مفجوعة متألمة من كل أصقاع العالم.

وداعا أيها الرجل الحر، إلى الملتقى.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom