Al-Quds Al-Arabi

سلامة كيلة ضد اليسار الممانع للثورة السورية

- فراس سعد ٭

تشــكل اليســار العربي عموما علــى خلفية الصراع الســوفييت­ي الأمريكــي، حيــث ســارعت كل مــن الدولتــن إلى حشــد تحالفات واســعة في صفهــا. وكانــت الاســترات­يجية الســوفييت­ية تقتضي حشــد أكبر جبهة ممكنة ضد أمريكا والإمبريال­ية من كل التوجهات السياســية والحزبية، مهما تباينت أفكارها وعقائدها، بشــرط أن تكون معادية للاســتعما­ر والإمبريال­ية، وفي سبيل ذلك استطاعت جمع الشيوعيين والبعثيين والناصريين، وحتى بعض الإسلاميين، وحينما أعلنت فصائل إسلامية الجهاد ضد أمريكا وقفت معها، ولا ننســى تأبين كثير من اليساريين الســوريين واللبنانيي­ن لأسامه بن لادن باعتباره مجاهدا ضد الإمبريالي­ة.

فاليسار تأســس إذن على العداء للإمبريالي­ة، وفي قلبها أمريكا، وعلــى الولاء التام للجبهة الســوفييت­ية الاشــتراك­ية، ولم يكن مهما أن تكــون أنظمة وأحزابا عربية في هــذه الجبهة، تمارس اضطهادا وظلمــا وإفقــارا لشــعوبها طالما هي بقيــت على عهــد النضال ضد الإمبريالي­ة.

زمن الثورة السورية

علــى هــذا الأســاس السياســي الاســترات­يجي، تم بنــاء موقف اليسار العربي عموما من الأنظمة العربية المناضلة ضد الإمبريالي­ة، رغم سقوط الاتحاد الســوفييت­ي، وانفراط عقد جبهته الاشتراكية، والتحولات العميقــة الاقتصادية والثقافية التي طالت هذه الجبهة، ولاســيما روســيا، التي أصبحت دولة إمبريالية، كما يصفها المفكر العربي الفلسطيني سلامة كيلة.

ألهمت الثورة الســورية العديد من الكتاب والمفكرين العرب لحظة انطلاقتها، فوقفوا إلى جانبها، لكن ســرعان مــا تراجع أكثر هؤلاء عــن موقفهم الداعم للثورة والشــعب الســوري بحجــة تحولها إلى الســاح، وظهور بعــض التشــكيلا­ت المقاتلة الإســامية فيها، لكن نخبة من اليســار العربي، إذا صحت التســمية «اليســار الممانع» لم تقف مع ثورة الشــعب الســوري يوما واحدا، لا حــن كانت الثورة سلمية، ولا حين استبيح الشــعب من الجيوش والمليشيات الرديفة للنظام، ولا حين هجّر نصف السوريين، ولا حين زجّ عشرات الآلاف من مناضليه وكوادر الثورة في الســجون. فهؤلاء الممانعون وقفوا مــع النظام دائمــا، في كل حالاتــه، ومهمــا كانــت ارتكاباته، وفي الأحسن صمتوا عن جرائمه حتى الكيميائية منها التي أدانها العالم أجمع..

قلة من كتاب ومفكري اليســار العربــي بقيت على موقفها الداعم للثورة الســورية حتى هــذه اللحظة، مــن هؤلاء المفكر الفلســطين­ي الســوري ســامة كيلة الذي يوافق 2 أكتوبر/تشرين الأول الذكرى الثانيــة لغيابه، والــذي اعتبر ثورة الســوريين ثورتــه، فدفع جزءا مــن حريته في ســبيل الثورة، فتعرض للســجن وللإبعاد والمنع من العودة إلى دمشق التي أحبها كما فلسطين.

كان سلامة أحد أهم الكتاب الذين تناولوا أحداث الثورة السورية والقضايــا التــي أثارتهــا بالتفصيــل، عبر كتــب أربعة، وعشــرات المقالات، وكان أبرز الذين تناولوا موقف اليسار الممانع من الثورة... يتســاءل سلامة عن الســبب الذي جعل الشــعوب والنخب العربية على الســواء، تقف وتدعم كلا من ثورتي تونس ومصر، في الوقت الذي وقفت فيه النخب على الأقل ضد الثورة السورية؟ ولكي يكتمل ســؤال ســامة ويصبح أكثر ديناميكية وراهنيــة، يمكن أن نضيف إليه سؤالا تابعا وهو، لماذا عادت هذه النخب ذاتها بعد سنوات إلى اتخاذ موقف ضد ثورتي تونس ومصر أيضا.

يجيب ســامة بالقول، إن الســر في تمييز النخب تلك بين ثورتي تونس ومصر من جهة والثورة الســورية من جهة أخرى، يعود إلى موقف مفتــرض للنظام الســوري ضــد الإمبريالي­ــة أو أمريكا، في مــا جرت العادة علــى أن ينظر للنظام المصري كتابــع لأمريكا، لذلك فالثــورة ضد النظام المصري حلال، فيمــا تصبح الثورة ضد النظام الســوري حرام! ودائما حســب تلك النخب العربية، بل والشــعوب العربية، طالما أن كلا من النخب والشــعوب العربيتين وقعتا ضحية بروباغندا، أحســن النظام السوري تســويقها داخليا وعربيا طوال عقــود، جعلت منــه رائد النضــال التحرري العربي ضد الاســتعما­ر والإمبريال­يــة والرجعية إلخ، إذ أن الموقف النُخَبــي العربي المعادي للثــورة الســورية، يعود إلــى وهم أصلي لــدى هذه النخــب يتعلق بماهية النظام الســوري، فأي من مثقفي تلك النخب المعادية للثورة لــم يتعرف علــى تكوين هذا النظــام، ولم يعرف حقيقتــه، ولو فعل لتبدل موقفه بالتأكيد..

سلامة و«الممانعة»

يســخر ســامة مــن النخــب العربيــة، تحديــدا تلك التــي تدعي انتماءها لليســار، تلك النخب التي اتهمت ثورات الشــعوب العربية بأنهــا مدعومه مــن الإمبريالي­ة، ويتســاءل مســتهجنا، كأن هؤلاء يقولون إن الإمبريالي­ة تستطيع التحكم بالشعوب!

ولــو تابعنا فكرته واســتنكار­ه لموقــف هؤلاء لقلنــا إن الصحيح هو أن الإمبريالي­ة تتحكم بالحكومات، والحكومات تقمع الشــعوب نيابــة عن الإمبريالي­ة، ولهذا فإن الشــعوب العربية، حين ثارت على حكوماتها فكأنما هي ثارت على الإمبريالي­ة، ولذلك لا يمكن أن تكون الإمبريالي­ــة هي من تدعم الثورات، إنما هي من تقمع الثورات وتدمر الأوطان بواسطة وكلائها في الحكومات العربية..

ويذهب ســامة في معرض دفاعه عن الثورات العربية، ولاسيما عن الثورة الســورية إلى الحقل الأثير إلى قلبه، أي الماركسية، وإلى البعــد الطبقي، فيتســاءل في أحد كتبــه عن الثورة الســورية، ترى هل يمكن لنظام تحــول إلى ليبرالية اقتصادية متوحشــة، أن يكون نظاما مقاومــا أم ممانعا، والممانعه هنا لها معنى ادعاء الامتناع عن الخضــوع للإمبريالي­ــة؟ ولا بد مــن التذكير إن كان ســامة اول من ابتكر مصطلح «الممانعة».

وإجابــة ســامة مضمرة في ســؤاله، وهي لا، لا يمكــن لليبرالي تابــع للإمبريالي­ة أن يكون مقاوما لها، وهــذه الإجابة ربما تصح لو حددنــا الليبرالية في المجال العربي، لأن هناك دولا وأنظمة ليبرالية غيــر عربية تقــاوم الإمبريالي­ة اقتصاديــا وثقافيــا واجتماعيا، أي أنها ترفض الخضــوع للنموذج والإنتــاج الإمبريالي العولمي، يمكن على ســبيل المثال أن نذكر من تلكم الــدول، كلا من الصين وماليزيا وتركيا، وربما إيران أيضا... لكن هذا لا يســتوي في الحالة العربية، فمــا هي الدولة العربيــة التي لبرلت اقتصادها، وفي الوقت نفســه قاومت العولمة أو الإمبريالي­ة؟

مقارنتــه المهمة هذه بين اللبرلــة والمقاومة، كانت في معرض رده على اليســار العربي، الــذي اعتبر أن النظام الســوري نظام «مقاوم للإمبريالي­ة والعولمة» وبالتالي فيجب الوقوف معه ضد الثورة التي «تدعمهــا» هــذه الإمبريالي­ة! وهــذه الثيمة الخرافيــة نالها الضعف خــال الســنوات الســبع المنصرمــة،، فلم تعــد تقنع ســوى بعض الأبواق المنتفعة من الأنظمة..

غادرنا سلامة كيلة في مثل هذه الأيام )2 تشرين الأول-أكتوبر( قبل عامين، لكن فكره لحسن الحظ لم يغادر، بل بدأ للتو يأخذ مكانه الذي يســتحق في عقول آلاف الشباب الذين أحبوه، وهو ما يجعل سلامة سعيدا بلا شك حيث هو الآن.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom