Al-Quds Al-Arabi

انتفاضة تشرين العراقية... المحركات والمآلات

- *كاتب عراقي

مــرّت الذكرى الســنوية لانطلاق انتفاضة تشــرين في العــراق بجو احتفائي، إذ احتفل الآلاف في ساحات الاحتجاج بحدث مهم كان مقيضا له أن يغير الوضع القائم في العراق، لولا مجموعة عوامل داخلية وإقليمية ودولية تدخلت في مســار الأحداث وأعاقت، وربما أوقفت الحراك الاحتجاجي.

فقد شهدت ســاحة التحرير في بغداد تظاهرات كبيرة، احتفالا بالذكرى السنوية لانطلاق انتفاضة تشرين 2019، وعلى الرغم من ظروف الحجر الصحي المفروضة في البلد، إلا أن المشــاركي­ن كانوا يتوافدون على المكان تملؤهم روح التحدي، فــي محاولة لإيصال رســائل للحكومة والطبقة السياســية مفادهــا، أن الانتفاضة ما تــزال فاعلة، وأنها قادرة على فرض إرادتها من جديــد متى توفرت الظروف المؤاتية لذلك. وعلى الرغم من المخاض العســير الذي مرّت به الانتفاضة، والتحديات الكثيــرة، ومحاولات اختراق الحراك، وركــوب الموجة التــي قامت بها بعــض تيارات وأحزاب الســلطة، إلا أن صمود شــباب الانتفاضة وقف حجر عثرة بوجــه كل هذه المحاولات، وأفشــل محاولات الالتفــاف التي نجحت ســابقا فــي احتــواء الحراكات الجماهيرية المماثلة في 2011 و2015 و2018.

وربما كانت أبرز الضغوط التي مورست على الانتفاضة، هي محاولة فرض مرشحين لتولي تشــكيل الحكومة مثل الزرفي ومحمد توفيق علاوي، وممارســة كتل ســائرون والفتــح النيابيــة وميليشــيا­تها الضغط، عبر ممارســة العنف والخطف والترهيب بحق الناشــطين المدنيين، لكن كل ذلك فشــل في كســر صمود الانتفاضة، حتى تم تكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة، وحتى الكاظمي الذي يحــاول البعض أن يصوره وحكومتــه على أنها الحكومة التي طالبــت بها قــوى الانتفاضة، لكن وقائــع ما حدث تنبئنا بغير ذلك تماما، إذ اعتبرته تنســيقيات الانتفاضة الخيار الأهون بين خيارات ســيئة كانــت مطروحة، لأنه مستقل، وغير محســوب على حزب أو ميليشيا، كما أنه تم تمرير تكليفه، وفق توافق الكتل السياســية الفاسدة التي تحاول الانتفاضة الإطاحة بهــا وبحكوماتها وبخيارتها، لذا لا يمكن اعتبار الكاظمي خيــار الانتفاضة بأي حال من الأحوال. رئيس الحكومة، مصطفــى الكاظمي من جانبه، ما زال ومنذ تكليفه في إبريل 2020 يغازل قوى الانتفاضة، ويصف نفســه وحكومته بأنها نتــاج الحراك الجماهيري للانتفاضة، وأنه ســينفذ ما يطالب به ثوار تشرين. وفي الذكرى السنوية أصدر مكتب رئيس الحكومة بيانا رسميا جاء فيه «فــي الذكرى الاولى لأحداث تشــرين الوطنية، نجدد التأكيد على ثوابت شــعب العــراق العظيم، صانع تشــرين وبطلها وشــبابها المتدفق، رغم التضحيات، لقد جــاءت هــذه الحكومة بناءً علــى خريطــة الطريق التي فرضها حراك الشــعب العراقي ومظالمه وتطلعاته، ونؤكد الوفاء لشعبنا ولخريطة الطريق التي فرضتها دماء شبابه الطليعي وتضحياتهم .»

وأشــار الكاظمي في بيان الذكرى الســنوية لانتفاضة تشــرين إلى إنه «لا يخفى على شــعبنا طبيعة التحديات التــي تواجه بلادنا في هذه المرحلــة الدقيقة من تأريخه، بالإشــارة إلى الأزمات التي ورثتها حكومتي على مستوى البنية الاقتصادية المتهرّئــة، ومن ذلك تحويل العراق بكل إمكاناته البشــرية والتأريخية إلى رهينة لأسعار النفط، وهــو ما نعمل علــى تغييــره بالكامل، من خــال معادلة اقتصــاد الإنتــاج وتفعيل الطاقــات الذاتيــة». وأوضح الكاظمي أن «المرحلة الحساسة التي يمرّ بها وطننا تتطلب أن يتوحد الجميع من قوى سياســية وفعاليات شــعبية، للوصــول إلى انتخابات مبكّرة حرة ونزيهة على أســاس قانــون عادل». لكن بالمقابل نقرأ بيانــا لم يعرف مصدره، أو مدى تمسك كل أطراف الحراك وقواها بما ورد فيه، لكنه في كل الأحوال يقدم وجهة نظر شريحة مؤثرة من شرائح انتفاضة تشــرين، ويحدد مطالب الانتفاضة التي وصفها البيان بـ»المســتمرة» بعــدة نقاط مثــل، محاكمة علنية لقتلة المنتفضين، والكشف عن الجهات والأشخاص الذين قاموا باختطاف وتعذيب واعتقال الناشــطين الســلميين، بل تم رفع ســقف المطالب هذه المرة إلــى المطالبة بانضمام العراق للمحكمة الجنائية الدولية، لكي تتم محاكمات قتلة المتظاهرين السلميين بإشراف دولي عادل غير مسيس ولا منحاز إلا للعدالة.

أما تركيز تنسيقيات انتفاضة تشرين الوارد في البيان الأخيــر، فكان علــى إقرار قانــون الانتخابــ­ات الجديد، بصيغته التي طالب بها الحــراك والمتمثلة بقانون الدوائر الانتخابيـ­ـة المتعددة فــي كل أنحاء العراق، مع الإشــارة إلى عدم إجراء الانتخابات قبل أن يتم حصر الســاح بيد الدولة، وتجــريم أي حزب، أو جهة مســلحة خارج نطاق المؤسسات الأمنية. على أن يتم الالتزام بموعد الانتخابات في الســادس من يونيو 2021 تحت إشراف أممي ومراقبة لجان من مؤسسات المجتمع المدني وتنسيقيات الانتفاضة، وكذلــك المطالبة بإلغــاء التصويت الخــاص، ولو لدورة واحدة، واســتخدام البطاقة البارومتري­ة. مع توفر شرط اســتقلالي­ة المفوضية العليا للانتخابات وإبعادها عن أي محاصصة حزبية. على أن يكون كل ذلك مســبوقا بتفعيل قانون الأحزاب، وبكشف مصادر تمويلها، وتجريم التخابر مع الدول الأجنبية، على حساب سيادة العراق ومصالحه.

يشــير عدد من المراقبين والمختصين بالشــأن العراقي إلى صعوبة، بل حتى اســتحالة إعــادة زخم الحراك مرة أخرى، إلا أن بعض المحللين يــرون أن قوى الانتتفاضة ما تزال ممســكة بالجذوة الثورية، لذلــك ماتزال هذه القوى قادرة على تحريك الشارع من جديد. لكن وبتصور تقريبي للمشهد، يمكننا تقســيم قوى الحراك اليوم بعد مرور سنة علــى الانتفاضة إلى الشــكل التالي، أقليــة ربما تتراوح بين 10 إلى %15 من قوى الانتفاضــ­ة ما تزال مصرة على اســتمراري­ة الحراك، وهي التي أصرت على البقاء في خيم الاعتصام في ســاحات الاحتجاج، حتى في أحلك ظروف الجائحــة الصحية، وهــذه الفئة من المنتفضين متمســكة بطرح الحل الصفــري الذي يريد أن يهــدم الوضع القائم من أسسه تحت شعار )شلع قلع( لتتم بعد ذلك إعادة بناء العملية السياسة على أسس وطنية سليمة، بعد أن أنهكتها ونخرتها مافيات الفســاد السياســي طوال 17 سنة، حتى أوصلت البلد إلى حالة التردي التي يعيشها، وهذه الأقلية مازالت ذات صوت عال في الســاحات، لكنها لا تمتلك على أرض الواقــع كل مفاتيح الحراك التــي تمكنها من تحريك الجموع مرة أخرى بالسهولة التي تحركت بها قبل عام.

في المقابل هنالك فئة ثانية تشــابه نسبة الفئة الأولى تقريبــا، وترى أن الانتفاضة قد انتهــت، وأن ما حدث كان فورة شــبابية، وحلم ثوري جميل، وصفحة من صفحات نضال الشــعب العراقي وقد طويت، ولا أمل في اســتعادة حيوية الحراك الاحتجاجــ­ي مرة أخرى، وبالتالي لابد من الخضوع لقدر العراقيــن، والقبول بالأمــر الواقع، حتى تحين فرصة أخرى، إذ يحلم البعض بجنرال يقوم بانقلاب عســكري يزيح الطبقة السياســية بالقوة، ويبدأ مرحلة جديدة من الحياة السياسية. وتحاول هذه الفئة أن تسوق قناعاتهــا بانتهاء وموت الانتفاضة، عبر الإشــارة إلى أن هنالــك من خــان الانتفاضة، وان هنالك مــن ركب الموجة للحصول على مكاســب ومناصب في حكومة الكاظمي، ما أصاب جماهير الانتفاضة بحالة قاتمة من الإحباط.

بين الفئتين أعلاه تكمن الكتلة الأكبر من قوى الانتفاضة، بنســبة قد تصل إلى %70 من قوى وحركات وتنسيقيات انتفاضة تشرين، هذه الفئة حاولت أن تقدم حلولا عقلانية للحراك، واقترحت تأجيل أو إيقاف العمليات والنشاطات الاحتجاجية، وحتى إخلاء خيام الاحتجاج بسبب الظرف الصحي الناتج عن تفشي جائحة كورونا، وقد تميزت هذه الكتلة منذ بدايات الحراك الاحتجاجي بعدم تفضيلها للحل الصفري المتمثل بهــدم كل ما تحقق بعــد 2003، وطرحت بالمقابــل رؤية اصلاحية من داخل النظــام القائم، على أن تكون بعيدة عن الحلــول الترقيعية، تتم عبر قيام حكومة مؤقتة بصلاحيات واســعة، ومســؤوليا­ت محدودة لمدة انتقالية محددة يتم فيها العمل تحت ظل إعلان دستوري، ما يســهل حل البرلمان بدون الوقوع في فراغ دســتوري، ليتــم حينها تعديــل قانون الأحــزاب، وتعديــل قانون الانتخابات، وتشــكيل هيئة قضائية مســتقلة، بديلة عن الهيئة العليا للانتخابات، التي تعاني من التســيس. ومع أن ســقف المطالب الذي طرحته هذه الرؤية كان عاليا، إلا أنها بالمقابل طرحت فكرة فتح خطوط للتفاهم والتفاوض مع حكومة الكاظمي عبر إيصال طلبات الانتفاضة ومطالبة الحكومة بتحديد جدول زمني لتنفيذها، مع التأكيد الدائم علــى أن حكومة الكاظمي لا تمثل مطالــب الانتفاضة، إنما بالامــكان التفاوض معها علــى خريطة طريــق لتحقيق مطالب الانتفاضة.

فهل ستستفيد انتفاضة تشرين من تجربة بعض ثورات الربيع العربــي الناجحة مثــل الثورة التونســية، التي اجتازت أزمات خانقة، عبر إقــرار المرحلة الانتقالية التي تمت فيها عملية التحول عبر صفقــات مع جزء من النظام القديم، لتجنــب عملية الهدم الكلية التي قــد تبدو مكلفة، وربما مرعبة في ظروف بلد كالعراق؟ ربما ستســفر نتائج انتهاء ظروف جائحــة كورونا عن معطيــات جديدة في العراق وحينذاك سيكون لكل حادث حديث.

هل ستستفيد انتفاضة تشرين من تجربة بعض ثورات الربيع العربي الناجحة مثل الثورة التونسية، التي اجتازت أزمات خانقة؟

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom