Al-Quds Al-Arabi

الكويت: واحة صغيرة بين رمال متحركة

- كاتب بحريني

يســتبعد كثيرا حدوث تغيرات كبيــرة في المنظومة السياســية الكويتية بعد رحيل الشــيخ صباح الأحمد الصباح، وهو الرجل الذي لم يعاصر استقلال بلده قبل خمسين عاما فحســب )1961( بل كان مسؤولا كبيرا في كافة التشكيلات الوزارية التي تكونت بعد الاستقلال.

ومن المستبعد ان يحدث انقلاب في تلك السياسة بعد صعود نواف الأحمد )شــقيق الاميــر الراحل من ابيه(، فقد عــاش في كنف أخيــه وكان أحد عناصــر المنظومة السياســية الكويتية منذ الاســتقلا­ل. ونظرا لتقدمه في العمر )83 عامــا( فمن غير المتوقــع ان يحدث تغييرات جوهريــة فيهــا. وجاءت وفاة الشــيخ صبــاح لتضع تلك المنظومــة امام محك آخــر بعد ان بــدأت العناصر المؤسســة لدولة ما بعد الاســتقلا­ل تغيب تدريجيا عن المسرح السياسي. فقبل ان يســتلم إمارة البلاد )2006) قضى 20 عاما وزيرا للخارجية )منذ العام 1985( وقبلها وزيرا للإعلام منذ اول تشــكيل وزاري في 1962. ويمكن القول أن له بصمة اساســية في صياغة سياسة الكويت طوال العقود الســتة الاخيرة. ولذلــك لا يمكن ان تقيّم مســيرة هذا البلد الخليجــي، ســلبا او ايجابا، بدون التطرق لدور صباح الأحمــد فيها. ولا يمكن الادعاء بأن سياســات الكويت كانت مثالا للحكمــة في هذه الحقبة، بل لطالما تقلبت وتأرجحــت واضطربت على الصعيدين الداخلي والخارجي. كما لا يمكن قراءة مســيرة الكويت المعاصرة بدون التطرق لحقيقة جوهرية: انها بلد صغير محاط بدول ثلاث لكل منها أطماعها الإقليمية وسياساتها التوسعية. كما انها تعيش في عالم عربي ممتد الأطراف يعاني من أزمات سياسية مستعصية منذ الحرب العالمية الثانية وتأسيس الصيغة الحالية للجامعة العربية. وقد عاصر صباح الأحمد عاصر هــذه التطورات والأزمات، وتأثر بها وأثّر فيها، ايجابا او ســلبا كذلك. ومن يسعى لتقييم مسيرة الرجل لا يســتطيع تجاوز وقائع التاريخ وارتباطهــ­ا بالجغرافيـ­ـا الطبيعية والسياســي­ة. ولكن الحقيقــة التــي لا يمكن إنكارهــا ان هذا البلــد احتفظ بشــخصيته الاعتبارية والسياســي­ة طوال تلك الفترة، ودفع، في بعض الاحيان، اثمانا دموية كبيرة.

الكويت اليوم، كما كانت دائما، تســعى لشق طريقها فــي محيط اقليمي مضطرب وســط صعوبــات اقليمية تبــدو احيانا مســتعصية على الحلول. ولذلك ســتظل العناصر الحاكمة محاصرة بتلــك الحقائق التي تتطلب رؤى مختلفــة عمــا لدى اغلبهــا. ويســتبعد ان يكون الامير الجديد متوفرا على نظرة مختلفة. ولذلك ســتظل الكويت تواجــه العواصف السياســية المتعددة المنابع والاتجاهات التــي عصفت بحكم آل صبــاح. وبرغم أن «عواصف الشــمال» من إيران والعراق ســوف تستمر، الا ان «عاصفة الجنوب» ستظل الأكثر تهديدا لسياسات الكويت التي تتقاطع مع سياســات «الشــقيقة الكبرى» احيانا وتتضارب معها فــي حالات كثيرة. وفيما اتجهت عواصف الشــمال نحو الهــدوء منذ فترة فــان الرمال العربيــة المتحركــة المنطلقة مــن الربع الخالي بشــكل خــاص لن تتوقف عن الحركة، وســتصل الــى الكويت بين الحــن والآخر. لقد واجه صبــاح الأحمد الكثير من تلك العواصف واســتطاع، بادارته التي تتميز بالهدوء، التعايش معها. ولكنها مستمرة.

تعرضت الكويت لاستهداف من الدول الثلاث المحيطة بها، ومن المؤكد ان لسياساتها دورا في دفع تلك الدول لما قامت به مباشرة او طريق المحسوبين عليها. في النصف الاول مــن الثمانينيا­ت عندما كانت الحــرب العراقية – الإيرانية في ذروتها، اســتهدفت الكويــت باعمال عنف غير مسبوقة، وأهمها اســتهداف موكب الامير السابق، الشــيخ جابر الأحمد عام 1985. وبســبب موقفها الذي اعتبرته إيران داعما للعراق تعرضت ســفنها في العام 1988 للاستهداف العســكري من قبل إيران، الامر الذي دفع الأمريكيين لإرســال سفنها الحربية لمصاحبة السفن الكويتيــة. ومارس صباح الأحمد دبلوماســي­ة متحركة ازاء ذلك، ولكنه كان ملزما بسياســات مجلس التعاون المتقلبة. بعد توقف تلك الحرب جــاء الاجتياح العراقي للأراضــي الكويتيــة 1990. كان من نتائــج ذلك مجيء القــوات الامريكية الى المنطقة وبدايــة حقبة جديدة من الهيمنة الاجنبية المباشــرة على منطقة الخليج. في تلك الاثناء حدث أكبر شــرخ في البناء الخليجي باستهداف الســعودية مركز الخفــوس القطري في العــام 1992. فاذا كان صباح الأحمد يعتقد أن المجلس ســيكون اطارا للتعــاون الذي يحــول دون توتر العلاقــات بين دوله، فــان ذلك لم يتحقق. فقبل الازمة الســعودية – القطرية المذكــورة حدثت في العــام 1986 ازمة «فشــت الديبل» بين قطــر والبحرين، وهي منطقة بحريــة بين البلدين. وهكــذا كان التصدع الداخلي يميــز العلاقات الخليجية حتى بعد تأســيس مجلس التعاون. وربما ادت الحرب لاخراج القوات العراقية من الكويت ولكنها ادت لمشاكل اخرى. هذه المرة حدثت الازمة بسبب اصرار السعودية على البقاء في بعــض المناطق الكويتيــة التي تمركزت فيها قوات ســعودية خلال الازمة، خصوصا في جنوب البلاد وجزيرة «قاروه»، وهــي ازمة ما تزال قائمة حتى اليوم. فحتى الآن لم توقع اتفاقية حول المنطقة المقسومة عنــد منطقة الخفجي جنوبي البلاد، وما يزال الســجال حولها مستمرا، وقد ناقشها مجلس الأمة في شهر كانون الثاني- يناير الماضي ووافق على مشروع قانون اتفاقية ملحقة باتفاقية تقسيم المنطقة المحايدة واتفاقية تقسيم المنطقة المغمورة المحاذية للمنطقة المقسومة بين الكويت والســعودي­ة، وتم إحالته إلى الحكومة أيضا. هذا يعني ان المشــكلة مســتمرة نظرا لرفض الســعودية التوقف عن التحرش بتلك المنطقة. هناك رغبة إيرانية لترســيم الحدود البحرية مع الكويت ولكنها تشترط انهاء ترسيم الحدود بين السعودية والكويت.

كمــا كان من نتائــج أزمــة الاجتياح حــدوث حالة اســتقطاب حادة بين الكويتيين والفلســطي­نيين الذين كانوا يعملون هناك منذ عقود. فقد وقف بعض هؤلاء مع العراق اثناء الازمة، الامر الذي أغضب الكويتيين كثيرا. ولكن يســجل للكويت انها، برغم الأزمــة، لم تتخل عن القضية الفلسطينية، وترفض حتى الآن مشروع التطبيع الذي شرعت به حكومتا الامارات والبحرين.

الأمير الجديد ســيواصل سياســة ســلفه وســيجد امامه قضايا عديدة، داخليــة وخارجية. لقد كان اخوه شخصية قوية، ســعى لبسط سلطته باساليبه الخاصة وتجربته الدبلوماسي­ة والسياسية الواسعة. وقد كرس قبضته علــى الأمور مــن خلال عناصر حاشــيته التي اختارها لتكون طيّعة له. وســاعدته هذه البطانة لتمرير سياسته الهادئة التــي تمكن بهــا من الســيطرة على الامور الداخلية وتهميــش التحديات التي تواجهه واخمــاد الاصــوات المناوئة. فعندمــا خرجت مجموعة برلمانية تطالب بإصلاح الوضع ومحاربة الفســاد، وفي مقدمتهم مسلم البرّاك، كان مصيرهم السجن والتشريد، حيث هــرب العديد منهم الى تركيا. وعندما عاد بعضهم، اعتقل وتم تخييــره بين البقاء في الســجن او الاعتذار للامير. ومن هؤلاء وليد طبطبائي الذي خرج من السجن بعد تقــديم الاعتذار. كانــت «الهبّــة البرلمانية» تحديا لسلطة الشــيخ صباح، ولكنه اســتطاع إخمادها. وفي الوقت الذي تقرّب من إيران وقام بزيارة رسمية لطهران 2014، فانه مارس قبضــة حديدية على الوضع الداخلي واعتقل نشطاء من النشطاء الشيعة بتهمة الانضمام الى منظمات محظورة.

لقد كان بإمــكان صباح الأحمد احتواء ازمات داخلية عديدة ولكن لا يبدو انه كان يتمتع بالقدرات السياسية المطلوبة لتحقيق وئام داخلي كامل. فبالاضافة لاضطراب العلاقة مع المكوّن الشيعي، تواصلت ازمة فئة «البدون» التي تبدو حتى الآن مستعصية على الحل. فهناك أكثر من 100 الف من هؤلاء الذين ولــدوا وترعرعوا في الكويت ولكنهم محرومون من جنسيتها. والحرمان من الجنسية يعني خسارة الكثير من الامتيازات المرتبطة بها كالتعليم والعناية الصحية والتملك وسواها. هذه الازمة ما تزال تتفاعل برغم الوعود المتواصلة بحلها. وســيجد الامير الجديد نفســه امام هذه المشكلة التي يفترض ان تحسم بشــكل إيجابي، فيتم اســتيعاب الفئــة المذكورة ضمن المجتمع الكويتي كمواطنين معترف بهم، وعدم اخضاعهم للتلاعب السياسي او المساومة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom