Al-Quds Al-Arabi

جنوب القوقاز: في جذور السردية الأذرية

- كاتب لبناني

ذات يوم كانت يريفان، عاصمة أرمينيا اليوم بأرجحية أذريّــة، وكانت تفليســي، عاصمة جيورجيــا بأرجحية أرمنيــة، وكان عدد الأرمن والــروس مجتمعين، يفوق في باكو، عاصمــة جمهورية أذربيجان اليــوم، عدد الأذريين والمسلمين. هذه كانت عليه الحال في أواخر الحرب العالمية الأولى.

كان القوقــاز الأصغر، المتمدد على رقعــة هذه البلدان الثلاثة، جيورجيــا وأرمينيا وأذربيجــا­ن، بخارطة اثنو - ديموغرافيـ­ـة مختلفة إلى أبعد حد عــن زماننا مع كل ما في خارطة الراهن الاثنوديمو­غرافيــة من عناصر ملتهبة مزمنة. ورغم أن من أمســك بمصائر أقوام جنوب القوقاز لحظة تهاوي مُلك آل رومانوف كان تشكيلة من أحزاب لكل منها حيثية طليعية في قوم بعينه، الطاشناق عند الأرمن، والمناشــف­ة المحليين عنــد الجيورجيــ­ن، وكل من «حزب المســاواة » والامتداد القوقازي لجمعيــة الاتحاد والترقي بالنسبة إلى الأذريين، الا ان هذه الأحزاب اتفقت عام 1917 على تشكيل فدرالية تتسع أساســاً للجيورجيين والأرمن والأذريين.

وجــاءت انتخابات الجمعية التأسيســي­ة الروســية أواخر العــام 1917، التي جرت بعد ســيطرة البلاشــفة على الحكم في بتروغراد وموســكو، لتعكس بقوة شرعية هذه الأحزاب «القومية»، مع اســتثناء وحيد انما مفصلي للغاية: شعبية الحزب البلشــفي بين عمال وجنود مدينة باكو نفسها، في مقابل ضعفه في كل مكان آخر.

سمح البلاشــفة بانتخابات الجمعية التأسيسية لعامة روســيا، لكنهم لم يترددوا بحلها، وتفريــق أول اجتماع لها بعــد أن أظهرتهم نتائج الانتخابات كأقلية، مســوّغين قرارهم هــذا بأنهم نالوا أغلبية التصويــت العمالي وهذا يكفي. عملياً ســرّع قرار حل الجمعية التأسيســي­ة المضي باتجاه الحرب الأهلية.

وإذا كان القســم القوقــازي الجنوبــي مــن الجمعية عقد العــزم على الاســتمرا­ر كجمعية تأسيســية خاصة بالجيورجيي­ن والأرمن والأذريين، الا انه ظهر ســريعاً بأن الحفاظ على ترانســقوق­ازيا الموحدة هــذه لا يقل صعوبة عن الفــرز المرير بل يزيد، وفاقمت الأمر معاهدة بريســت ليتوفسك بين روسيا الســوفيات­ية وبين المانيا وحلفائها، بمن فيهم الســلطنة العثمانية: فقد نصّت على انســحاب الروس من شــرقي الأناضول ومن باطومــي على البحر الأســود، لصالــح العثمانيــ­ن. والأخيــرو­ن، اعتبروها مناســبة للطلاق العنان لمشــروع توسعة الســلطنة الى مناطق تتار القوقاز حتى بحر قزوين.. ونفطه.

ظهرت جمهوريــات القوقاز الجنوبــي الثلاث نتيجة للانهيــار المحتــوم لتلــك «الفدرالية الترانســق­وقازية ،» والتنامي السريع لشعور كل قومية فيها بأنه مضهوم حقها داخلها.

وهنا، يقدّم كتاب الديبلوماس­ي والباحث الأذري رحمان مصطفييف الصادر أواخر العام الماضي، بالفرنســي­ة، عن الجمهورية الأذرية الأولى ‪-1920، 1918‬بســطاً للسردية الأذرية: فهذه الجمهورية الأولى لــم تعلن من باكو، التي كانت حتى اواخر تموز 1918 تحت سلطة ما عرف بكومونة باكو )1917 - 1918(، وبرز فيها القيادي البلشفي الارمني ســتبان شــاهوميان «لينين القوقاز»، وانما من تفليسي، عاصمة جيورجيا اليوم. وقتها كانت تفليسي مدينة خليط بين الارمن والجيورجيي­ن والأذر. في تناوله لكومونة باكو

هذه، يحــاول مصطفييف ان يظهرها منحازة إثنيا للأرمن بشــكل وخيم. بذريعة التحالف ضد الطورانيين، ســاند الطاشناق بلاشــفة باكو في البدء، ثم كان التطهير الاثني في باكو ضد الأذريين فــي آذار 1918، ومصطفييف لا يتهم الطاشناق فقط بذلك، بل البلاشفة ايضاَ.

انجرار كومونة باكو البلشــفية الى ارضيــة التناحر الإثني، ومكابرتها عليه، بدعوى انها تحارب الاتحاديين - الطورانيين وليس كل الاذريين، أدى إلى استلام الطاشناق الدفة وانقلابهم لاحقا ضد بلاشــفة المدينة، قبل أن ينجح الانكليز وأعوانهم في اعتقال قوميسارات الكومونة الـ 26 ، وفي طليعتهم شاهوميان وهم في طريقهم الى استراخان واعدامهم.

أدت تصفيــة كومونة الى قيام ســلطة طاشــناقية - منشفية مشــتركة «ديكتاتورية اسطول قزوين الأوسط» فــي اب 1918، لتندلع المعركة الشــاملة بعدها بين الجيش العثماني - الأذري بقيادة نوري باشــا، الأخ غير الشقيق لوزيــر الحربية العثماني أنور باشــا، وبين الطاشــناق، الــى ان دخل العثمانيون منتصف ايلــول 1918 الى باكو. عندما حســم الجيش النظامي العثماني أمر معركة باكو، طلــب من قطاعاتــه المرابطة على تخــوم ومداخل المدينة لترك العصابــات غير النظامية ترتكب المجازر الشــنيعة بأرمن المدينة، انتقاما من مجــازر اذار 1918 التي ارتكبها الطاشــناق. كان هــذا قبــل أن تضطر الهزيمــة النهائية للســلطنة العثمانيين نهاية نفس العام 1918 لتوقيع صلح مودروس، والانســحا­ب من باكو ذلك الخريف، انما تركها في عهدة الجمهورية الاذربيجان­ية الديموقراط­ية التي لن تعمر ســوى 23 شــهرا بالنتيجة. أما أرمينيا، فعلى الرغم

من ان صلح مودروس أعاد مدينة الكســندرو­بول اليهــا )لينينكان في العهد الســوفيات­ي، غيومري اليــوم(، فإن هــذه المدينــة وقد أصبحت حدودية، مــا عادت تصلح كعاصمة، كما لو كانت الحال لو اســتمرت أرمينيا تحتفظ بجــزء من الأناضول، وتوجب اختيار يريفــان، ذات الأرجحية الأذرية كعاصمة لأرمينيا. بعــد أن أشــرفوا على حســم الحــرب الاهلية الروســية لصالحهم، سيتمكن البلاشــفة تباعاَ من اعادة جمهوريات القوقاز الجنوبي الثلاث الى بيت الطاعة، بدءا من أذربيجان، في أبريل 1920. لكن البلاشــفة لم يتمكنوا من حل مشــكلة ناغورنــو كاراباخ، ولا الجيــوب الاثنية المختلفة في البلدين، بل كانوا أقرب إلى إدارة النزاع الاثني حينا، وترويضه حينا آخر.

كانــت الجمهوريــ­ة الأذريــة الأولى قبــل أن يقوضها البلاشــفة، بالفعل اول تجربة علمانية ديمقراطية في بلد مسلم، في حين لم تكن أرمينيا الطاشناقية كذلك، بل أقرب إلــى حكم الحزب الواحــد، قبل أن تنقلــب اللعبة لصالح الشــيوعيي­ن فيها. رغــم مجهود مصطفييــف على اعتبار جمهورية عالييف اليــوم تتمة للجمهوريــ­ة الاولى، فإن طبيعة نظام الحكم فيها بعيدة تماماً، وهذا ليس بتفصيل. أرمينيــا أكثر ديمقراطية، لكن اختــزال الصراع اليوم إلى ديمقراطية أوروبية في وجه اســتبداد شرقي هو أيضاً لا يخدم تشكيل صورة أكثر هدوءا لنزاعات جنوب القوقاز.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom