Al-Quds Al-Arabi

تحوّلات سليم بركات

-

لم أقرأ، بعد، رواية ســليم بركات الأخيرة «نشوء المعادن: موســوعة الكمال بلا تحريــف» التي تكرّم بإهدائي نســخة منهــا وصلت قبل أيام معدودات فقط؛ لكنّ تفحّص فصولها التسعة )أي قضاء ســاعة، على الأقلّ، في تقليب صفحاتها الـ505!( أوصلني إلى اســتنتاجا­ت فنية تتماثل على نحو أو آخــر مع خلاصة قراءتــي لأعماله الروائيــة الثلاث الأخيرة: «زئيــر الظلال فــي حدائــق زنوبيــا» 2017 «ســيرة الوجود وموجــز تاريخ القيامة» 2018؛ و«ماذا عن الســيدة اليهودية راحيل» .2019

الاســتنتا­ج الأوّل هــو ميل بــركات إلى المطوّلات، ســواء في عــدد الصفحــات ‪566 ،581 )575،‬ ، علــى التوالي( أم في العنــوان. وهذه ليســت ســمة شــكلية، بالطبع، لأنهــا تمثّل نقلة أســلوبية عن غالبيــة روايات بركات الســابقة، وتعود في تقديري إلى اعتبارات متداخلة شــتى، لعلّ أبرزها إغواء الحسّ الملحمي، وهيمنة المشهدية الحاشدة، واتساع النطاق البشــري، واعتماد شبكات ســرد جانبية شــديدة التداخل وتســتدعي الحكــي والحبك فــي آن معاً. وقد أرتــابُ في أنّ بــركات، إذْ يوشــك على اختتــام العقد الســادس من عمره، بات أكثر لهفة على اســتنفار خزينه اللغــوي الزاخر، وأكثر ميلاً إلــى تأهيب قدراته البيانية الهائلة؛ خاصة وأنّ التوازن في الإصدارات بين الرواية والشــعر رجّح كفّــة النوع الأوّل نسبياً.

والحــال أنّ المطوّلة الروائية لا تُقــارن بالقصيدة الطويلة، كما في «ســوريا» التي صدرت ســنة 2015 ووقعت في 152 صفحة، بــل قد لا يصــحّ إطلاق صفــة «المطوّلــة» على نصّ شــعري واحد طويل، يتمتع بعمارة بنيويــة متكاملة ويقوم علــى طراز من الوحدة العضوية. وبهذا المعنى فإنّ اســتقرار بركات على المطولات الروائيــة يصعب ألا يضرب في جذور تعبيرية وأدائية وأســلوبية، لدى شاعر وروائي أنجز حتى الســاعة 22 مجموعــة شــعرية و28 روايــة؛ كمــا يحيل إلى مســتوى ما، هادئ أو حتى محتدم، مــن الصراع التناظري، الخــاق أغلــب الظنّ، بين الشــعر والســرد. وهــذا من دون افتــراض التطابــق أو التناقض بالضرورة في ما يشــهد به بــركات حول العلاقة بين الشــعر والروايــة، كما حين يكتب )ضمن شــهادة مطوّلة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي(: «فــي كلّ امــرئ شــاعر وروائي. البعــض ينحو إلــى تغليب الســرد مطلقــاً فيكــون روائياً، والبعــض ينحو إلــى تغليب شــهوة القيافة متتبعاً ثغرات السرد فيغدو شاعراً. أنا آثرت أن يتجاورا غريمــن، صديقين، يختطف الواحد من الآخر ما يقدر عليه».

اســتنتاج ثانٍ يخصّ الصلة بين عناصر الموضوع الروائي وكلّ مــن الزمــن والتاريــخ والمــكان والبيئة، حيث تســجّل الروايات الأربع الأخيرة نقلة حاســمة من الخلفيات الكردية والشمالية السورية عموماً، أو من الخلفيات القبرصية مكان إقامــة بركات قبل انتقاله إلى الســويد في «الريش» و«عبور البشــروش» و«الكون» و«كبــد ميلاؤوس» إلــى مواقع مثل تدمــر والاســكند­رية وصور وحمــص وأريحا وغــزّة «زئير الظــال...» وأخــرى مُتخيَّلــة أو افتراضية أو محــوّرة مثل هيلوفيرنوم وهامبورتوم «ســيرة الوجود...»وثالثة واقعية ترتدّ إلى مســقط رأس بركات وســيرة الطفولة والصبا مثل مدينة القامشــلي «ماذا عن الســيدة...» ورابعة تختلق أرض ماغما الاستيهامي­ة، لاحتضان أقاصيص المعادن وصراعات قبائل الفلزّ...

هذا بدوره تحوّل أســلوبي، عميق وفاصــل في تقديري، لأنّ أعمال بركات التي استلهمت الشمال السوري أو المحيط القبرصي، أو حتى طور الإقامة في بيروت «أرواح هندسية» 1987 مثــاً كانــت تطــرح المكان مثل الإنســان فــي إطار من نثــر تصويري مشــحون؛ عالــي الفتنــة والبلاغــة والمجاز، كان فــي ذاتــه محرّضاً على الفانتازيا والســحر والدهشــة والغرابــة. وهكــذا تخفــف بركات مــن اشــتراطات فحص مصادر الســلوك، أو تخطيط الشــخصية علــى نحو دائري، أو زجّهــا في قلب اشــتباكات مجتمعيــة أو زمانية/ مكانية أو ســيكولوجي­ة يمكــن أن تقفــــــز إلى المســتوى الأوّل من اجتذاب القارئ، أمام المزاحمة القصــوى الموازية التي ظلت بلاغة بركات تفرضها على باحـــــة النــصّ. وفي روايات ما بعد 2015 إجمالاً، وفــي الروايات الأربع الأخيرة خصوصاً، يجــرّب بــركات ســتراتيجي­ة مضــادّة تتمثل في قلــب الآية تقريبــاً: العناصر المشــاركة فــي صناعة الموضــوع الروائي تُزاحــم، ربما بقوّة أيضاً، ســطوةَ اللغة وتجبّــر المجاز وعلوّ الفصاحة.

اســتنتاج ثالث يخصّ مقــدار التفات بــركات إلى تجديد تقنيات السرد التي اقترنت على الدوام ببصمته الشخصية، كســارد يحكي أحدوثة، وليس كشاعر يغوص في توصيف مشــهد؛ وبذلك فإنّ ألاعيبــه التقنية باتت أقــرب إلى مراعاة مقتضيات الرواية، منها إلى إطلاق سحر النثر على عواهنه. ذلك مكســب لفنّ الرواية بالطبع، ولكنه قد يكون خسارة من نوع ما لفنّ الشعر، أو بالأحرى افتقاداً لتلك الأعمال الروائية الفريــدة التي كتبها شــاعر بقامــة بركات («أنقــاض الأزل الثاني» 1999 على ســبيل المثال(. مــن حقّه أن يتعمد «نصب فخاخ التقنية» أمام القارئ، كما صرّح في شهاته آنفة الذكر: «التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها علــى رقعة العقــل )...( الوصل، والقطــع، والتدوير، والبدء مــن النهايــة، والانتهاء بالبــدء، وإعادة توزيع المشــهد على نحــو ملتوٍ، والإيهام، كلّها مراتب نقــضٍ وإبرام هما من عِقْد التأليف وخواصّه».

ومن جانبي، كقارئ ودارس أتابع بركات مبدعاً وصديقاً منذ 1969 لستُ قادراً على إحصاء النعميات الثمينة الوافرة التــي تغدقها على ذائقتي القرائيــة تحوّلاتُه الأخيرة، بصفة خاصة؛ شعراً )ولهذا مقام آخر بالطبع( وسرداً.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom