Al-Quds Al-Arabi

مرجعيات لا شعرية على عتبة النص

- ٭ شاعر وكاتب من المغرب

مهمــا توثقت علاقــة الشــعر بغيره من الأنواع الفنية والإبداعية، فإنه يظل محتفظا بخصوصيــة الالتباس، المؤثــرة جماليا في تأطيــر وتوجيه خطابــه. خصوصية تتمثل في تجاوزها لحدود توصيل حالة شــعورية أو فكرية ما، إلى مســتوى أكثر تقدما، يعنى أساســا بتســليط أضوائــه، علــى حالات وأحوال، غالبــا ما تكون منســية في ذاكرة الكائــن، كما فــي ذاكرة الكــون. باعتبار أن وضعيــة الالتباس التعبيــري، هي أحد أهم مصادر الغرابة الاســتعار­ية، التي تشــحن التلقي بطاقة مضاعفة مــن طاقات الفضول المعرفي، كي تجنح به إلــى نوع من المراوحة بين المابين، أي بين ما يعتقــد أنه معلوم، وما يبدو له مجهولا.

هــذه المراوحة، هــي التي تغــري مجهر القــراءة بالاقتراب من جوهــر الدلالة، عبر متواليــات الفهــم والتفســير، كــي تتحرك تدريجيــا مــن الواضح المعلن والمكشــوف، إلى الغامض المتخفــي، الموهم بتمظهره على السطح، وباتخاذه شكل بنية واضحة، معلنة ومكتملــة التفاصيــل. ففي حالــة الالتباس الاســتعار­ي هذه، لا تكون الكتابة الشعرية معنية بإيقــاظ مَلَكة الحجاج لــدى القارئ، من خلال تحفيزه على توظيف ســلطة العقل والمنطــق، بقدر ما تكــون معنيــة بتحويل مســار هذه الســلطة، في اتجــاه جمالي، كفيل بالكشــف عن حالات وحقائقَ، لا تكون بالضرورة مندرجة ضمن اختصاصات العقل وخطاباته العملية والمتداولة. مع الإشــارة إلى أن التأكيد على العامل التحويلي، لا يفيد عدم تملك الكتابة الشــعرية لرســالةٍ فكرية مــا، بقدر ما يعنــي تمنُّعَ هذه الرســالة على القراءات، التي تحشرها ضدا عليها، في خانة الرسائل المنتمية إلى الخطابات الاستدلالي­ة والحجاجية. والحال، أن الخطاب الشــعري يســتقل بقوانينه المنسجمة مع خصوصيته، على غرار العلــوم الرياضيــة والفيزيائي­ة، التي تمتلك هي أيضا، منهجيتها الخاصة بها في الاستدلال والحجاج.

بمعنى أن حضور الرســالة، يظل الســمة الملازمة لكل أنواع الخطابات، مع ذلك الفارق الملموس والطبيعي، الذي يتميز به كل خطاب على حدة. باعتبار أن الفكرة الواحدة، قابلةٌ للتمظْهــر بإواليات متنوعة فــي صيغٍ فكرية وإبداعية مختلفة. كما هو الشــأن بالنســبة للأنــواع الأدبيــة والفنية، حيــث تختلف الرسالة المتضمَّنة في العمل الروائي، عن تلك التي تخص اللوحة التشكيلية. الشيء نفسه يمكن تعميمه على فنون التعبير الجســدي، أو الموســيقي، مع الأخذ بعين الاعتبار، تباينَ مســتويات التفاعــل لدى الأفــراد، بتباين ميولاتهم واختياراته­م الفكرية أو الفنية.

إن ما نــود التلميــح إليه هنــا، هو كون الرسالة قد تكشــف في بنائها الشعري، عن مكونٍ لم يكن بإمكانها التعبير عنه تشــكيليا أو فلســفيا، وبالتالــي، فــإن التعبيــر عن الحمولة الدلالية لأي رســالة، يظل مشــوبا بحالة النقصان التي تعتبر طبيعية، تستحثه للبحث عن أنواع تعبيرية متعـــددة، يُحقِّق عبرها إمكانية تبلوره.

من هنا، وجب الانتباه إلى ضرورة تلافي التشــبث بهاجس الإحاطة التامة بتفاصيل الرسالة، على حساب إهمال وإغفال الجنس الفكري أو الجمالي الواردة فيه.

تبعا لذلــك، ليس للقــراءة التي تعودت على البحث عن رسالة اجتماعية، أو ثقافية، أو سياســية في خطــاب ما، أن تُلــزم اللغة الشِّــعريَّة بتبنــي منطق التوصيل نفســه، المعتمد عادة فــي هذه الخطابات، مع التذكير باحتمــال حضــور جرعــة شــعرية خَفِيَّة، على ســبيل المثال لا الحصــر، في الخطابات التاريخية، إلى جانب حضور جرعة تاريخية في الخطاب الشعري، شرط أن تكون منبثقة مــن طبيعة الســياق الواردة فيه. فســياق الخطاب التاريخي مثلا، قد يســتدعي بفعل ضــرورة بنائيــة معينــة، حضور مســحة شــعرية. والشيء نفســه بالنسبة للخطاب الشعري، الذي يمكن أن تتواجد فيه خطابات أخرى محايثة، بــدون أن تهيمن على بنياته المركزيــة، وبــدون أن تكرس اســتقلالي­تها في قلب خصوصية فضائــه، بوصفها مكونا هجينــا لا صلــة له بمكونــات الكـــــتا­بة الشعرية.

طبعــا، هنــاك غير قليــل مــن التجارب الشعرية المؤهلة لامتصاص خطابات دخيلة علــى بنيتها انطلاقا من عمليــة تحويلية، لا تكون دائما محمودة العواقب، إذ أن الشعر، وبالنظــر إلــى هشاشــته، يكــون معرضا باســتمرار لفقدان هويته، في حالة تســرب عناصر غريبــة عنه إلى فضائــه، لأن الحد الفاصل بين الشــيء ونقيضه في هذا الإطار، جد رهيف. فضلا عــن احتمال فقدان التعبير الشــعري لروائه فور حدوث اختلال بسيط وجزئــي في بنيتــه الجماليــة، ليتحول في نهاية المطاف إلى مسخ، ذلك أن الخطاب الذي يعتمد الإواليات العقلانية في تبليغ الرسالة، من خلال اســتناده إلى المساءلة الحجاجية، يمتلك تلقائيا بنية منسجمة مع خصوصيته، التي تكون حتما مختلفة بشــكل جذري عن خصوصية الكتابة الشعرية.

وفي ســياق تلميحنا لعمليــة دمج آليات تعبيريــة متعــددة الأجنــاس فــي البنية الشــعرية، تحضرنا ظاهرة التضمين المتعمد للبنيات اللاشــعري­ة، اســتنادا إلــى اقتناع أصحابهــا برؤية جذرية مضــادة للمألوف، هدفهــا توصيل الدلالة على حســاب إهمالها المتعمــد للشــرط الجمالــي. وهــي ظاهرة معرضة للفشــل، ما لم تكن واعية بقوانينها، التي يمكــن إجمالها في خاصيــة التذويت، التي من شأنها صهر النسق المقترح في البنية العامــة للنــص، عبر تلوينــه بالانزياحا­ت التي تكــون موجهــة ضمنيــا بخصوصية الذات الكاتبة وفرادتهــا. إنه التذويت الذي يســمح للمحكيات وللمعلومــ­ة التاريخية، الفكرية، أو الفلســفية، المنتميــة إلى حقول البرهنة والحجاج والجدل، بمغادرة أنساقها الأصلية، كي تندمج تلقائيا في مسار الكتابة الشعرية.

هــذا الاختيــار، يمــارس غوايتــه على القــراءة، ويشــعرها ســلفا بأنهــا بصدد التفاعل مع نص تنهــض جماليته من صلب المراوحة بين الخطابات العملية، والخطابات الشــعرية. كما يشــعرها بأنها ليست بصدد التباس مجاني، يســعى إلــى افتعال حالة من الإبهار الباهت الــذي لا يُفضي لأي هدف معلــوم، بقدر ما هــي بصدد تجربــة تطمح إلى تحقيق نوع من التــوازن، بين خطابات لاشــعرية وأخــرى جمالية، عبــر التفعيل المتقدم لشعرية التذويت.

إننا هنا أمام نوع من أنواع التملك الذاتي لخطــاب دخيل، عبــر انتزاعه مــن فضائه، وصهره داخــل فضــاء الكتابة الشــعرية، ذلك هــو الرهان الذي تضطلــع به التجارب الاســتثنا­ئية. إنه رهــان الفــوز بالغنيمة، المجســدة طبعا فــي التلقي، عبر اســتمالته بالمرجــع، وأيضا عبــر اســتمالته بجوهر الشعري الحاضر بقوة في نسيج النص.

فالقــارئ هنا، لا يهتــم بالفصل بين ما هو في ملكية التجربة، بماهي طاقة متحركة، وما هو في ملكيــة الذاكرة بوصفه معطى جاهزا. إنه يعيش جمالية قراءة نص شعري، مُوقَّع من قبل تجربــة تمحو الفرق القائم بين ذاتية الكتابــة، وموضوعيــة الخطــاب المحايث، لكن، مع ذلك، قد يظــل احتمال وقوع الكبوة واردا، كي تتيح للشــرخ إمكانية الإعلان عن تواجده. وهي اللحظة التي تفشــل الكتابة خلالها في تذويتها الشــعري للنص، بسبب عجزها عن ترويــض المرجعيات، والتخفيف مــن جفاف الخطابــات التي أسســت عليها شعريتها. فشــل يفضي إلى الغياب الحتمي للشــعر، نتيجة الحضور السافر لتلك الهوة الســحيقة، الفاصلــة بين خطاب متمســك بمرجعيته الحجاجية، وآخر مثقل بشعريته، كي تجــد القــراءة ذاتها في نهايــة المطاف، حائرة بين نص برأسين متنافرين، لكل منهما وجهته الخاصة به.

ومــن المؤكد، أن لا أحد يجــادل في أهمية حضــور القيــم الفكرية فــي الشــعر، التي تســتوحي منهــا كل الخطابــات، وبــدون اســتثناء مادة كتابتها، باعتبــار أنها تمثل ضوء الأزمنة البشــرية وجوهرها في ذاكرة الكون. علما بأن هــذا الضوء، وحال انفلاته من مشــكاة الكتابة، قد يصبح حارقا، يعمي الكتابة، كما يعمي القراءة على حد سواء.

هنــا تحديــدا، تكمــن فاعليــة الكتابة الشــعرية، مــن خــال حدســها الخاص، بخطورة أي توظيف عشوائي له، ومن خلال اقتصارها اليقظ على ما شف من إشعاعه في خلفيــة النص، كي لا يتحول خلســة إلى نار حارقة، تأتي على الأخضر والأزرق، وعلى ما تبقى من شهقة الألوان والأشكال.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom