Al-Quds Al-Arabi

القاصة المصرية شيرين فتحي في «رأس مستعمل للبيع»: مقاومة النسق وحضور العجائبي

- عادل ضرغام

الكتابة الفنية أو الأدبية في الأساس لا تنبت في فراغ، وإنما هي بناء وتشييد على ما سبق، وحلقة متداخلة ومتلاحمة مع حلقات أخـرى سابقة، وتحديد قيمة الكتابة الآنية لا تتم إلا من خلال الوعي بـالمـؤسـس الـسـابـق، لكي نقيس حجم الإضافة المتحققة، وطبيعة تلك الإضافة، سواء أكانت الإضافة مرتبطة بإيغال في مقاربة ظاهرة أو توجه ما، أو معارضة الظاهرة بشكل ساخر، أو بتشييد أبنية موازية للسابق.

في المجموعة القصصية «رأس مستعمل للبيع» للكاتبة شيرين فتحي تتجاوب كل قصص المجموعة لتشكيل نقطة مركزية واحدة، أو تأطير إطار فكري مشدود إلى النسوي في طبقاته وتحديداته المعرفية السابقة. وهذا التجاوب والتلاحم فيما يخص المناحي الفكرية التي تقاربها كتابة فنية قصص المجـمـوعـ­ة تجعل رمـوزهـا وإشاراتها الدلالية بها نوع من الهشاشة. ففي القصص إشــــارات رمـزيـة لأنمـاط وأنساق مؤسسة سابقا، ولن يشعر القارئ بكبير معاناة في الوصول إلى الدلالة أو الشعور بالإيحاء إلا في بعض القصص التي تشتبك بالخيالي والعجائبي.

ففي قصة «دمية» هناك تأسيس لنسق القمع الـنـسـوي بجزئياته ومـظـاهـره، فالتعامل مـن الأنمـــاط الثلاثة - الأم، والــــزوج، والأولاد التي تشكل المحيط الفاعل للمرأة - يأتي كاشفا عن ارتهانات سابقة، فــالأم أو السيدة الكبيرة تقوم بدور التكوين والتطويع لموجبات النسق، ومن ثم تدفعها للانسحاب داخـل ذاتها والانـزواء داخل حدودها وداخل النسق المحدد الذي تفرضه السياقات الاجتماعية الجاهزة الضاغطة والأعـــرا­ف، والطفل البالغ- داخل نسقه من البداية - يؤسس للمرحلة التالية، فتصير أكثر إذعانا للاستجابة لتغييب الفاعلية، فانفتاح الوقت - في اللهو بساقيها - يشير إلى تغييب مشاعرها ورغبتها، فليس هناك من جهته استحضار للوجود ومن ثم المشاركة الناتجة عن رغبة، وقد ألحت قصص كثيرة في المجموعة على تلك الفكرة، واختيار العنوان نفسه- الدمية- يأتي كاشفا عن مشروعية المنحى الدلالي.

القصة السابقة التي لا تزيد عن سطور قليلة تقوم بفعل الموجه للقراءة، فيلتقط الـقـارئ كل الإشـــارا­ت الكاشفة لسطوة النسق ومـظـاهـره وأدواتــــ­ه وفاعليته. فالأم في الثقافة العربية بشكل إجمالي ـ خاصة حـن يمتد بها العمر وتصبح في المساحة الفاصلة أو مساحة الريب بين عالمي الرجال والنساء - تتجلى في قصص كثيرة وكأنها حارسة النسق، وتقوم بجهود لافتة لاستمراره، قاتلة أي محاولة خافتة لخرقه أو لزحزحته من مكانه وسطوته، فيستمر النسق فاعلا، يمارس دوره، ليس فقط في الوجود وإنما في تحويل نمط الثوار المناوئين إلى خانعين

منضوين في إطاره.

إذا استحضرنا القسيمين الفاعلين )الرجل والمرأة( في قصص المجموعة نجد أننا أمـام قسيم له سطوة، بجوار قسيم ذاهب للتناقص والتلاشي، كما في قصة «قابلة للقضم». فالانطلاق هنا من منطق القوة الذي لا يهمه استحضار أو التفكير في فاعلية القسيم الآخر النسوي المقابل، لأن هذه المشاركة - لو وجدت - تكفل تغييبا لفعل القضم، لأن المشاركة تجعل تجلي الرغبات على بساط متساو، وهي المشاركة التي تكفل لها الوصول إلى لحظة واحدة سحرية استنادا إلى المتخيل النموذجي بالأجزاء المجموعة والمشكلة، كما في قصة «وقطعت أياديهن»، ولكن حضور القوة بعيدا عن تلمس الروح في مقاربة الذكوري للنسوي يكشف عن النتوءات الجسدية بالإضافة لنتوءات الـروح التي لا تندمل انطلاقا من حضور قسيم وتغييب قسيم آخر. فالمرأة في قصص المجموعة تتعرض لكل آليات التهميش كما في قصة «حرف الــدال» حيث تتحول المــرأة إلى )أم فلان أو أم فلانة...( تغييبا لحضورها المختلف علميا.

الــذات النسوية في مقاومتها للنسق الضاغط عليها لا تفقد القدرة في استيلاد آلــيــات تـتـدثـر بـهـا لــاســتــ­مــرار، فهذه الذات- بالرغم من هشاشتها وانكسارها وتلاشيها- تبني ملامحها لاستعادة وجودها وللوصول إلى روحها المختفية خلف طبقات التصحر المتراكمة، من هذه الآلـيـات التغيير الواقعي كما في قصة «جميل». فالتغيير السنوي لألـوان دهان الشقة يكفل تغييرا شكليا جزئيا، ولكنه يبقي لهذه الروح مساحة زمنية للتغلب على فكرة الفقد المتواصلة بالنسبة للأم التي تمثل نسقا نسويا سابقا، وبالنسبة للفتاة البطلة الفعلية التي فقدت الكتف التي ترتاح إليه بفعل حصار زوجــة الأخ حيث كان التربط بين الشقيقين يهدهد الإحساس بالعنوسة بشكل جزئي.

تتمثل الآلية الثانية في صناعة العالم الخاص بها، حيث يتاح لها في هذا العالم مساحة قد تكون كافية لمراقبة الــروح، واستبقاء نزوعها الفردي حاضرا بعيدا عن الموات المستمر، وربما يكون هذا العالم متجليا بشكل ما في الاستهلال بوصفه نوعا من خطاب الملحقات الذي يوجه عملية القراءة من البداية، ففي الوحدة- داخل هـذا العالم المصنوع- تستعيد روحها جزئيا. فحين يقول الاستهلال )كانت تتمنى لو ترك لها مساحة مناسبة اليوم، فمساحة الأمــس لـم تكفها، كـي تتمكن من المـرور ما بين حجرات المنزل دون أن تصيبها بعض الخــدوش( يشعر المتلقي بحدود العالم المستقطع بعيدا عن حياة طافحة بالعادة والتسليم لسطوة قابضة.

هذا العالم المصنوع يأخذ مدى أكثر حرية حين يتشكل واقعا بعيدا عن حدود الفضاء المشترك، ففي البراح الخارجي يخف الثقل الضاغط، فالارتباط الخاص بالأغاني أو الموسيقى في قصة «رأس مستعمل للبيع» يشير في دلالته الأولى إلى الشخصيات المهزومة التي تستحلب عالمها رثاء وأملا وتشكلا ومراقبة في مـداد الأغاني، لأن

ميراث الفقد أو النقصان يجعل الإحساس بصداها مغايرا، فالأغاني أو الموسيقى لكل مهزوم باب متخيل للاستقواء والشعور بالنصر. ويشير هذا الارتباط إلى أن هناك حياة مقهورة نائمة تحتاج فقط مثيرا كي تطل برأسها، وأن هناك روحا محبوسة تـتــوق للحياة والحركة دون محددات وأطـــر جــاهــزة وأعــــراف تعرقل نموها وتشكلها.

تتمثل الآلــيــة الأخــيــر­ة فــي المـراقـبـ­ة والانــتــ­ظــار لحـركـة الــزمــن وتجسيدها المستمر وما تحدثه من خلخلة. فالزمن - بما يسدله من متغيرات كما تجلى في قصة «بالمثل»- يشكل براحا للتحول والانتقام المضاد، فالجلطة أو الغيبوبة التي أصابت الـــزوج خلخلت التراتب والفاعلية بين القسيمين، بين الموجِه والموجَه، بين المحرك والثابت، ومن ثم تتجلى جزئيات لافتة وكاشفة عن تمثيل الـذات بحرية، أولها: الحق في التكلم الذي كان مسلوبا أو مغيبا في السابق، وثانيها: التحكم في طعامه وشرابه، وآخرها: الفاعلية في تشكيل السياق والفضاء والأولاد وتشكل فكرة المعارضة.

الـــذات الأنـثـويـ­ة خـروجـا مـن مأزقها الوجودي الخـاص تستخدم في الغالب سلطة المتخيل، للقدرة على الاستمرار، خاصة إذا كـان المنحى الكتابي- نسق التحيز ضد المــرأة وتغييب حضورهايرتب­ط بمنجز سابق في كتابات أجيال مستمرة، سواء أكان ذلك المنجز مشدودا للتجلي العربي، أم مشدودا للتجلي الغربي.

فالتجلي العجائبي في قصص المجموعة أو نسقه السحري مشدود إلـى هدفين أساسيين، الأول منهما يرتبط بإسهامات السابقين في هذا المجال، ويأتي العجائبي هنا لإسدال الدهشة التي هو أولى مراتب المعرفة، لأنها تفتح الباب للسؤال عن إمكانية التحقق وصعوبته، أو الوقوع في مساحة الريب بين الواقعي والخيالي،

فيغدو العجائبي في ذلك الإطـار آلية من آليات إعادة تشكيل المنجز السابق فكريا لـدى آخرين، من خـال إضفاء تغييرات تجعل القصة أو الحكاية تتجلى بشكل مغاير يدفع للتساؤل، خاصة إذا تجلى هذا العجائبي مرتبطا بالمعارضة الساخرة.

حضور العجائبي في قصص المجموعة لافــت للنظر، ويمـكـن لـلـقـارئ أن يقف وقفات تأويلية خاصة مع قصص عديدة، بداية من قصة «موظفون للعالم الآخر»، ومـــرورا بالقصتين «انـتـقـام» و«ذاكـــرة هلامية»، وانتهاء بقصة «رأس مستعمل للبيع». تتوزع وظيفة وجدوى العجائبي في قصص المجموعة إلى وظائف عديدة، تتمثل الوظيفة الأولى في تنضيد وتشكيل فارق واضح بين عالمين، واقعي وعجائبي متخيل، بحيث تبدو الـــذات فـي الإطــار العجائبي المتخيل منطلقة من قدرتها على الفعل، والحركة والتوجيه والتأثير في الفضاء المحيط، وفي الإطار الوقعي تبدوالــذا­ت نفسها- مسحوقة وفـي طريقها للتلاشي.

فــي قصة «انــتــقــ­ام» يتجلى الخيال المشدود للعجائبي بوصفه الوجه المقابل للواقعي بأنساقه وقوالبه، وكأن القصة تعرض لنا وضع المرأة في إطارين، حيث تطل في واحد منهما منفعلة هشة، تحركها سطوة فاعلة منسجمة ومنطلقة من القوالب الجاهزة والنمطية، وتتحمل في ذلك الإطار الحمولات العديدة انطلاقا من تحديدات وتوصيفات القالب التي تضع الكثير من هذه المتاعب على عاتقها.

لا تقف قيمة العجائبي ووظيفته - كما رأينا في القصة السابقة- عند حدود تنضيد مـجـالـن لـلـحـركـة، أو إطـاريـن يكفل التوزع بينهما مساحة تقوم بدور ترويضي، بحيث يشعر المتلقي أن هناك مجالا لتخطي الحدود المرسومة بدقة. بل نجد في بعض الأحيان قصصا تتعاظم على وظيفة تنضيد المجالين. على نحو ما يمكن أن نرى في قصة )ذاكـرة هلامية(، فالعجائبي يتجلى في هذه القصة وفق ملمح جديد، ينطلق من حتمية الصراع،

ومن أن الحياة الواقعية يمكن أن تستمر لأن هناك نافذة مهمة تسمى الخيال. فالقصة تكشف حـدود الصراع المستمر والأبـدي بين القسيمين، بالإضافة إلى الكشف عن نتائجه الجسدية من خلال الأصابع على وجه القسيم الأنثوي.

أما في قصة «رأس مستعمل للبيع»، وهي القصة التي تحركت لأهميتها الفكرية من الداخل لتصبح عنوانا للمجموعة، وكأنها أيقونة دالة على مجمل التوجهات الفكرية والمعرفية، فيأخذ العجائبي منحى خاصا، حيث تصبح الموسيقى أفق الروح وإطارها الخاص يحافظ على وجودها، ولو فكرة سابحة في الفضاء. ولكن سطوة النسق الذكوري تكشف عن فاعلية وجودها من خلال الإشارة إلى كونها مضيعة للوقت، ومن ثم إصدار قرار بالحرمان منها.

ولا يتبقى أمام الذات - في ظل الحضور المانع للموسيقى - سوى الاستماع إليها بحرية أثناء قيادة السيارة، ولكن هذا الوضع يجعلها لا تتفاعل مع الموسيقى جسديا وحركيا كما يجب، ولذلك بدأت هذه الموسيقى المشدودة بالضرورة لحركة الجـسـد المحـبـوسـ­ة تتجمع فـي الـــرأس، وأصبحت تصدر موسيقى أثناء سيرها، وتعود إليها في شكل نوبات تصيبها في المنزل أو الشارع.

القصة هنا على هذا النحو لا تقف عند حدود الصراع، وكأن في وجود أحدهما تغييبا للآخر، ولكن من خـال الخطاب العجائبي الـذي يتجلى بوصفها خطابا يعارض ويهشم الواقعي، يقدم خطابا قائما على المعارضة الساخرة، تكشف عن انحيازات وارتكاسات الخطاب الذكوري، من خلال تعرية أسسه، وتهشيم مرتكزاته من خـال فضح سلطويته، وأحاديته، والإشــارة إلى هشاشته، وحتمية تفتته، لأن الــذات قــادرة من خلال وسائلها في الالتفاف حوله، وتفريغه من مضمونه الذي لا يخلو من هشاشة. شيرين فتحي: «رأس مستعمل للبيع» الهالة للنشر والتوزيع، القاهرة 2019

106 صفحة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom