Al-Quds Al-Arabi

رواية السوري معبد الحسّون «قبل حلول الظلام»: انفجار الذاكرة بما أُثقِلت من جحيم تدْمُر

- المثنى الشيخ عطية

يبدو أن محاولات نظام بشار الأســـد مــحــوَ آثـــار جــريمــة دفـن الـسـوريـن أحـيـاء فـي سجونه، وسجن تدمر بـالـذات مـن خلال توجيه «داعـش» لتدميره، تُعاني مــن الـفـشـل، فـمـسـرحُ الجـريمـة انحفر فــي أرواح معتقلي هذا الـسّـجـن قـبـل أجــســاده­ــم التي انحفرت فيها الزنازين والهراوات والكابلات الفولاذية والأمــراض وأفعال تحطيم الــذوات، وشوماً تُــــؤرّق ليالي مــن بـقـوا أحـيـاء، وحــبــالَ مـشـانـقٍ وطــلــقــ­اتٍ لمن جَرتْ تصفيتهم ودُفنوا في مقابر جماعية في مجاهل الصحراء. ولا تني هذه الوشوم عن التجلّي والبروز في الشّهادات والأفـام التوثيقية والروايات، لتلفّ حبال الخــزي وربمــا المشانق بعد ذلك على أعناق من قاموا بها، مهما استخدموا من مماحٍ ومنظفات...

«قـبـل حـلـول الــظــام ـــــ حين يصير الـدم مـاء» روايــة السوري مَعْبد الحسّون التي تروي شهادته الشخصية كمعتقل سابق في هذا السّجن وفي سجون أخرى، تُشكّل أحـد أبــرز هـذه الـشـهـادا­ت، ليس لكونها توثّق بالأحداث والتواريخ والصور مآسي وفظائع ما فعل الديكتاتور حافظ الأسـد بجميع معارضي اسـتـبـداد­ه وخياناته لشعبه، من تعذيبٍ وقتلٍ وتحطيمٍ للذات السورية في سجونه المرعبة التي يَقصُر عنها وصـف جحيم دانتي، وتصوير الفنان الهولندي جيروم بوش فحسب، وإنما أيضاً لكونها ترقى بالتوثيق الــذي لا تتنازل عنه إلـى فضاء الـروايـة. وتلك مـيّـزة تمنح التوثيق بعداً إنسانياً يساهم في تثبيت وقع الواقع داخل القارئ، ويدفعه أكثر للتعاطف الإنساني.

في روايته «قبل حلول الظلام» لا يحاكي معبد الحّــســون بنية «ألف ليلة وليلة» رغم أن سرديّته للسجن والسجناء في عهد حافظ الأسد تحتمل تكوين بنيةٍ توحي بألف سجنٍ وسجنٍ، أو خمسين ألف جحيمٍ وجحيمٍ، أو مئة ألف سجينٍ، وسجينٍ يكون هو الراوي بعدهم كأمثلة.

ولا يستخدم الحسّون الخيالَ كلياً في هذه الرواية مثلما فعل الروائي السوري مصطفى خليفة المماثل له بتناول موضوع سجن تــدمــر الـتـدمـيـ­ري كـمـا الجحيم لأجساد ونفوس وأرواح البشر، بإعادة ابتكار نفسه في شخصية راوٍ مسيحي يُسجن كمسلم سني بين المعتقلين الإسلاميين، ويمارس سـرديّـة سجن تدمر كمتلصّص على ما يجري داخل مهجعه وعلى ساحة إعـدام السجن في الخارج من شقّ بين باب المهجع والجدار.

لكن الحسّون يلجأ إلى بساطة التوثيق الصريح الكامل حول تجربة ما رأى كشاهد سجين حيّ في أربعة سجونٍ هي فرع فلسطين للتحقيق الـذي يحمل الرقم 235 وسجن المـزّة العسكري، وسجن تدمر، وسجن صيدنايا العسكري. ويبلغُ التوثيق معه حـدّ المراهنة على فقدان الرواية كرواية، بنشر صور المعتقلين الذين يتحدّث عنهم، وبعض صور جلاديهم، من ضباط مــخــابــ­رات وقــضــاة، بـالأسـمـا­ء الحقيقية الكاملة لهم. لكنّ الرواية تـصـمـد كـــروايــ­ـة وتحـــلّـــق فـوق التوثيق بفعل السجون الموثّقة ذاتها، وعلى رأسها سجن تدمر، ما بعد السوريالي، الــذي يثبت مقولة «الواقع الذي يفوق الخيال» حيث لم يحتج الحسّون في ظل قسر ظــام العمر الــذي يقترب، سـوى إفـات يـده من على مزلاج ذاكرته لتنفجر، ناشرةً هـول ما جرى على يد السفّاح حافظ الأسد بصورة جميع الجلادين وضباط التحقيق والقضاة الذين يتعاملون مع أبناء بلدهم، وقـد صـار الدم

مــاءً، كحشراتٍ وفـئـران تجارب للأسلحة الكيميائية.

ولـــم يـحـتـج الحــســون سـوى إضفاء رصده واستبطانه العمقَ الإنساني داخل السجناء في أشد لحظات حيواتهم كثافةً، تحت جـــولات التعذيب وعـلـى أعمدة المشانق، كما على الاختلافات البسيطة حول الطعام والماء والآراء السياسية والاجتماعي­ة المتضاربة المـضـحـكـ­ة لــبــشــرٍ يـتـشـاركـ­ون وضعهم في فكّ قرش، ولم يحتج كذلك ســوى إضـفـاء آرائـــه التي ربّما، كان من الممكن تغيير أمكنة بعضها، حول السجن والسجّان والــوجــو­د والــعــدم، لكي يخلق بيئةً إنسانيةً في قلب الجحيم، تدفع الـقـارئ لمتابعة مـا يحدث للشخصيات وما يمكن توقّعه من مصائر ومــآلات، رُغــم أنـه يقوم، كما في قصص ألـف ليلة وليلة، بـإنـهـاء حـيـاةِ شخصية سجين ليفتح حياة شخصية سجين آخر ويسردها وينهيها. ولم يكنْ على الكاتب أن يفصحَ في صنع هذه الرواية الإنسانية التي تعالج النور والظلام داخل الإنسان، أكثر مما أفصحَ في إهدائه، حول بساطة أسلوبه وعلاقته بأبطاله:

«إلى الرجال الرجال/ محمود عبد الــهــادي شـــرُّوف، وعثمان أصفر، وشعبان خطّاب، وزاهي العبّادي/ وكثيرٍ من رفاقهم الذين أستذكرُهم في الطريق الطويلة/ إلـى الجلجلة/ التي سقط أثناء الصعود إليها شهداء وشهود/...

سأظلٍّ أتذكرهم قبل أن /يُخاط جثماني على جسد الأرض/ وقبل حلولٍ الظلام».

تماشياً مع بساطة السّرد الذي يقوم بـه راوٍ وحيد هـو الكاتب نفسه، السجين بـكـلّ وضــوح، يضع الحـسّـون روايـتـه في بنية ظـاهـرة بسيطة تتضمّن مقدّمةً تعرض البنود الخمسة الأولى من إعـان حقوق الإنـسـان، الخاصة بحقوقه الإنسانية وحريته وعدم جــواز تعذيبه واحـتـرام كرامته، تحـت عـنـوانٍ يبعث على الأسـى هـو: «حبرٌ على ورق» مع خاتمةٍ يتحدث فيها عـن حالته كمنفي يسجّل تجربته. ويضع الحسّون بين مقدمته وخاتمته عشرة فصول لا يفاصلها ترتيبٌ مكاني، وتحافظ على تسلسلها الزمني منذ الاعتقال وحتى الإفراج في السجون الأربعة الــتــي عـــاش تجـربـتـهـ­ا وعـايـش شخصياتها. وذلك تحت عناوين: احتضان الهاوية، شعبان خطاب ـــ للعقلِ ألــفُ عــنٍ وللقلبِ عينُ واحـــدة، أنــا الــذي رأيـــت، الــروح تحيا والكلماتُ تموت، تدمر جريمة العصر المعلنة، مهجع 38، مرارات الــروح، أسطورة القطة العمياء، مهجع 29 وحـقـائـب الــذاكــر­ة، صيدنايا وبقية عُمْر.

وداخــــل هـــذه الــفــصــ­ول، في السّرد، يختار الكاتب اتجاه السّرد عن الآخـريـن، ووضــع نفسه في شخصية المراقب لما يحدث، مبتعداً قدر الإمكان عن سرد نفسه، لكنه ينزلق قليلاً عن هذا بوضع تحليله

وفلسفته المواضع.

في مضمون ما يسردُ ويوثّق الحسّون عن شخصيات أبطاله، لا يبدو غريباً نقله الاتّهام إلى حافظ الأسد بالتعامل مع الإسرائيلي­ين في قضية الإسرائيلي إيلي كوهين الذي عمل جاسوساً باسم عدنان ثابت في دمشق، وارتبط بالعديد مـن الضباط الـــذي وُجّــهــت لهم اتهامات بالتعامل معه، كما لا يبدو غريباً نقلَه اتّهام بيع الجولان إلى الأسد. فالضبّاط الذين اتُهموا بالتعامل مع كوهين أطلَق الأسد سراحهم بعد تولّيه الحكم، وسجنَ قائد الأركان أحمد سويداني الذي طلب محاكمته على إعلان سقوط القنيطرة قبل سقوطها، وهزيمة الحرب، في الوقت الذي يُذهَل فيه القارئ عند اكتشافه أنّ المعتقلين الذين يتحدّث عنهم الحسّون هم من أكفأ ضباط الجيش وحاملي أوسمة الجمهورية، وأحدهم هو بطل حرب تشرين.

وفي مضمون ما يسردُ الحسّون وهــو كثير، يمكن إيـــراد بعضه للقارئ كأمثلة:

ـــ حالة السجين عقل قربان الــــذي قـضـى فــي المــنــفـ­ـردة 10 ســـنـــوا­ت، وأصـــبـــ­ح الـسـجـنـا­ء يسمعون صراخه الحيواني بعد أن جنّ، ويذكر الراوي وفق تداول السجناء لقصته أنه الرجل الذي حضر اجتماع حافظ الأســد مع الإسرائيلي­ين قبل حـرب 67 ولم يحتمل ضميره إخفاء ما حدث، ففرّ إلى لبنان ونشر كتاب «ثمن الجـولان» قبل أن يُعتقل ويُـوارى الجنون.

ـــ حالة تعذيب وإعـدام العميد شعبان خطاب ومجموعته التي كان معظم أفرادها أبطال حرب مثل الرائد الطيار عثمان الأصفر، الذي أسقط العديد من الطائرات الإسرائيلي­ة قبل أن تسقط طائرته ويتم أســره، وتــداول السوريون بـفـخـرٍ قـصـة إجــابــتـ­ـه للمحقق الإســرائـ­ـيــلــي، أنـــه «الـــصـــا­روخ الخامس» في طائرة الميغ 17 التي تحمل أربعة صواريخ.

ـــ حالة إعدام جماعة الشغب في اللاذقية، مع زعيمها الأسطوري أبو علي الجندي.

ـــ حـــالات السجناء المدنيين الـشـعـبـي­ـن، الــشــبــ­اب حـسـان طباع، الذي سخر من السجانين، عما يحدث في بعض

ومجموعة علي فـرمـان، الفتيان أبناء الست عشرة سنة، والشاب مهنّد وفائي المحكوم بـالإعـدام، ومهند وفائي الآخر الذي أعدموه كذلك رغم معرفة التباس الاسم، لأنه رأى ساحة الإعدام.

ـــــ حـالـة مهجعي الأحــــدا­ث، ومهجع النساء.

ـــــ حــالــة المحـكـمـة المـيـدانـ­يـة العسكرية الأولــى التي ترأسها اللواء حسن قعقاع، والثانية التي ترأسها اللواء سليمان الخطيب، واللتين يشكّل تشكيلهما بحد ذاته جريمة ضد الإنسانية.

ـــ حـالـة حـمـام سجن كفصلٍ من فصول الجحيم.

ـــ حـــالات التعطيش وتقديم البراز إفطاراً للسجناء، وغير ذلك مما يفوق خيال الشاشات التي تعرض أعمال المسوخ.

ـــ حالات الاستفحالا­ت النفسية وتفكك الشخصية.

ـــ حالة مرض السل الذي اجتاح مهاجع سجن تدمر، وأبرز السجين الشاب الدكتور زاهـي العبادي، الذي اكتشف السل وتفانى بعلاج السجناء، واستشهد بما يبعث الأسى، مريضاً بجرثومة مغايرة.

ويذهل القارئ من تنوع أطياف المعتقلين من مدنيين ومـن جميع الأحــزاب إلى الدرجة التي حدَت بصديق إلــى الــقــول عــن حافظ الأسد: «يخرب بيته، كان ساجن كل سوريا».

وخـتـامـاً فيما يـسـردُ ويـوثّـق الحسّون في انفجار ذاكرته على الصورة التي لم يُدرك في البداية فيها ما يجمّع من شظايا، يمكن للقارئ مشاركةَ الكاتب الأسى فيما يدوّن: «الآن، وأنا أبدأ بكتابة هذا الشيء الـذي لا اسم له. هذا الذي يشبه بعض السير الذاتية، تكون قد انقضت ثورتان عابرتان في تاريخ سوريا الحديث، قامتا ضد نظام واحد، وديكتاتور واحد، أورث كامل مهامه وسلطاته لابنه كـي يسير فـي مـسـاره إلــى آخر الشوط في إبادة شعبه. ولقد أورث لذاك الابن، شبه المعوَّق والمعدوم الضمير والذكاء والمواهب، مهام استكمال ما لم يتمكّن الأب الطاغية من تحقيقه في حياته».

معبد الحسّون: «قبل حلول الظلام» نون4 للنشر، حلب 2019

263 صفحة. تدمر،

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom