Al-Quds Al-Arabi

تفكيك متاهة الافتراض في زمن العولمة الهوجاء!

- ٭ ناقد وقاص من المغرب

يتخــذ عبد الرحيم ســليلي، مــن متنــه القصصي «ظل يرقص ســامبا شــرقية» الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب، فرع الراشــدية 2020 مدخلا لمســاجلة معطى الواقع الراهن الذي تتمطى وقائعه بيننا، مختلطة بنماذج المتخيل الأعمق الذي يعيش فينا، بلغة تترقرق بين سلاسة مغرية، وشعرية غميسة تستبطن، وتوحي، وتومئ أكثر مما تفصح، مُستفيدا من خبرته الشــعرية، وقدراته اللغوية في غزل الاستعارات والبلاغات المحكية النافذة بين ثنايا الروح القصية.

يصمــم صاحب «أضغاث ربيع» المتوجــة بجائزة الطيب صالح 2019 عوالمه الســردية بإحــكام، مُســتلهما مادته، أحيانا، من وقائع اليومي المتكررة في شكل ظوهر اجتماعية وإنسانية، وأحيانا، من متخيل التراث العميق، وتارة أخرى من متراكمه الإنســاني والقرائي، غيــر أن كل قصة من قصصــه، مهما تباعد الزمن بين تاريــخ كتابتها، توحي مفردة أو مجتمعة، بكونه يكتب من خلال مشروع متعدد الأبعــاد، يضم ما هو شــكلي جمالي إلى مــا هو فكري وفلســفي، مُراهنا على قلب رؤوس المفــردات المعتادة، وبناء جديد للعلاقات بين المكونات والمفاصل السردية، ونسج العلاقات بينها وفق سُلمية جديدة، وتغيير نسق الكتابة المألوف، بــدون تفريط في الإثارة المطلوبة لدى كل عملية حكي.

لا يني ســليلي يســائل واقعه في كل شرفة سردية، ويدقق في جرد التفاصيل الإنســاني­ة، العاكسة لبوادر الامتعاض والاشمئزاز والتأفف، من حال لم يعد يرضي أحدا، راســما، بعد ذلك، هذه الموجهــات الدلالية، على ملامح شخصياته المطواعة التي تتحمل مآسيها، مكابدة مصائرها المتورمة، ومزدردة طعــم الحرمان، ليس من الكرامة والأنفة وحســب، بل من قيمــة الحياة المكفولة لكل مخلوق. وهذا ما يطبع هــذه النصوص القصصية بالتجذر ضمن الوضع البشــري، هنا والآن، بعيدا عن المماحكة اللغوية، والتهويم الاســتعار­ي، والإيغال في الهروب.

يستنبت صاحب «مجرة المكاشفات» في مجموعته، قصصا كأنها أطروحات مجتمعية وإنسانية مستقلة، ينتقيها بعناية، وسبق إصرار وترصد، ثم يصُرها ضمن ســياقات متخيلة مقبولة، ليجد المتلقي نفسه محتجزا داخلها، مثل طائر في شــباك، يترنح ويترنح بدون جدوى، وكأن الباث يخاطبه ساخرا، صارخا فــي وجهه بأعلى صوت: «هذا حالك في حياة مطرزة بكثير من الزيف والكذب، وهذا كأسك الزعاف. فاشرب أو تمرد، ذاك شأنك».

يســتلهم القاص عبد الرحيــم موضوعاتــه وقضاياه من صميــم انتمائه لهذا العالم الضاج بالانكســا­ر والفجيعة، بدون أن يســتثني جغرافية ما، فهو يبدأ عادة من الوطن القطري: )الهجرة الســرية، الفقر، الوشــاية، الخديعة، الخيانة، الحرمان، التهريب، البطالة، ليوســع اهتمامــه بالعالم العربي، وما تجتلب فيه من حساســيات، وصراعات، وفتن، ما تفتــأ تتأجج يوما بعد يوم، في ســياق التشــرذم، والتآكل، والتمزق، والتخلف، والتسابق حول المصالح الشــخصية، والتفريط في قضايا الأمة الجوهرية: )فلســطين، سوريا، ليبيا، اليمن، السودان...( ثم يعرج على جغرافيات بعيدة؛ مستعينا على رفد خطابه الواعــي هذا، بالعــزف على ســمفونيات لغوية ومرجعية متعــددة الانتماء، ومتعمدا توسيع النوتات والمعزوفات من أرخبيل إلى آخر، ومن قارة إلى قارة، انســجاما مع الإطار التواصلي المعمم، الذي تنظمه تكنولوجيا الإعلام الجديد. وهذا غير بعيد عــن رهاناته الكونيــة، التي اعتدناه مغامــرا فيها، من خلال تجربته الشعرية العميقة، لإيمانه العميق بأن تجربة الكتابة، يجب أن تتخلى عن إقليميتها، وخانتها الضيقة، خاصة مع هيمنة الوسيط الرقمي، الذي ينشر خطوطه الممتدة على الجغرافيات القارية، محيلا إياها لمجرد قرية صغيرة.

لم يكتف ســليلي بالتأشــير، ضمنيا، إلى هــذه الكونية، بل أفــرد لها نصا مخصوصا، وعنوانا صريحا ســماه )مواطن كوني( وبأســلوب ساخر مليء

بالمفارقــ­ة، يجعل هــذا المواطن يحلم أو يهــذي، مصوبا نقضه للمقــولات الكبرى التي ما عادت تعني شــيئا في زمن تحكم فيه الوســيط الجديد بالجغرافيـ­ـا الكونية، جاعلا منها ألعوبة صغيرة، ومتخذا من الأرض وما فيها، أرجوحة مسلية، ليبرز هشاشة الرهانات الواهمة، التي تؤســس عليها القوى المســتحكم­ة في العالم فلســفتها، يقــول الراوي: )لا شــك أنكم عرفتمونــي الآن! ههههه.. أخطأتم.. كنت من هناك يا ســادة، الآن.. لــم أعد أنتمي إلى ذاك المــكان، عفوا، لم يعد المــكان ينتمي إليّ، لم يعد ينتمي لأحد، هذا إن كان لا يزال له وجود أصلا: فيأجوج ومأجوج من كل صوب ينســلون، يحملون الأرض دامية فــوق رؤوس حرابهــم، ويلوحــون بها لفلــول الغزاة والهاربين والمغضوب عليهم».

على الرغم من كون قضايا العالم العربي تشــغل القــاص في مجموعته هذه، مانحــا إياها الأولوية؛ بحكم ميول جانح من الراوي، نحو الهوية وأســئلة الكينونــة: الأطروحة المركزية في كتابات ســليلي، غير أنه بــن الفينة والأخــرى، يفضح بقع الشــر المنتشرة في العالم، تلك التي تتسع، للأسف، ناشرة أشرعتها البائسة على العالم بدون استثناء، متبنيا فكرة كون الشــر لا وطن لــه، ولا جغرافيا، ولا لغة، ولا دين، فهو يستشــري حيثما تهيأت له الأســباب والتربة الملائمة، ويركن الســارد، في أحايين أخرى، إلى تشــخيص ما يعيشــه الإنســان من مفارقات صارخة في عالــم يتطور اقتصاديــا وتكنولوجيا، بينما تتهاوى قيمه النبيلة مثل شهب ميتة، في وقت تتصاعد فيه القيم المزيفة، المضادة، المهدمة لكينونة البشر، ولما شيده من صرح حضاري على مدى قرون طويلة من التضحيات الجســام، يقول الســارد في أحد المقاطع القصصية: )بحصافة الفلاسفة، ونحن نتابع الأغنية فــي باحة المطار المذكــور، أعلنت عن أسفي الكبير لسخف المشــهد، وتذمري من الرداءة التي أصبحت عنوان زمننا... وإلا ما الداعي، من الأســاس، لتســخير القنوات العملاقة لإنتاج مثل هذا الهزال(.

يطرح القاص بأســى عميق معضلة تراجع القيم الجميلــة، والليل الدامس الذي صار يهوي إليه الكائن البشــري بحضارته الموغلــة في التاريخ، وهو لا يدري إلى أين تقوده خطاه العرجاء، وهو يقتفي أثر التقنية العمياء، في تسارع هادر لوتيــرة منجزاتها الُمبْهــرة، وكلما تقدم العلم، وتطــورت التكنولوجي­ا، غاصت قدماه في وحل الرذيلة، والفجيعة، والتيه، وتورط في مدارات غامضة تلتف حوله مثل زوابع تراكمية.

في الوقت الذي كان من اللازم أن تخدم التطورات التقنية والعلمية إنسانية البشــر، وجد الإنسان ذاته ضحية لها، خاصة أنها صارت فخا يوظفه الغوغاء والأشرار وأعداء القيم الراقية لقيادة الكوكب برمته، لخدمة أجنداتهم المادية، بينما تم تهميش الفكر والفن والأدب والأخلاق، أمام استغراب الحكماء وحماة المبادئ السامية، الذين ألفوا أنفســهم غرباء يصيحون في غير وادٍ، يترقبون حدوث العاصفة، في زمن تضاءلت فيه قيمــة الفرد والجماعة، وانزلقا معا في شرك العزلة والتفكك، رغم الخدمات الكبرى التي يمكن أن تقدمها التكنولوجي­ا، والتي لم توظف بالسبل المثلى، والمنهجيات الإيجابية السالكة. وهذا ما تفصح عنــه المجموعة القصصية في نصيْ: )فســطاط عزاء افتراضــي( الذي يعري، بشــكل فاضح، فخاخ الزمن الافتراضــ­ي، مُبرزا، في الآن ذاته، حســناته في توصيل المعلومة، وتقريب المسافات، وخلق المفاجآت السعيدة، و«وظل يرقص سامبا شرقية» الذي يصور حجم البشاعة التي انحدر إليها البشر بانخراطهم غير الواعي في متاهات تكنولوجيا التواصــل الافتراضي، واعتقادهم الواهم بكونها تعوض التواصل الحميمي، وتشبع الحاجات النفسية الطبيعية، بينما هي تعمل مقابل ذلك، بإفراط، على تهييجها في الاتجاه السلبي، وإماتة الأبعاد الوجدانيــ­ة فيها. فالفتــاة «البائــرة» التي منّت النفس بالعثور على عريس الغفلة خارج الحدود، في أرض الســامبا، وأوهمت خيالهــا الجامع بنجاحها في الخروج من فصل جفاف المشــاعر إلى ربيع الحب الوارف، الذي أغرقها في فردوسها رجل كالملاك، لم يكن سوى أوهام افتراضية، أججتها شاشــة صماء كاذبة، ولعب دور البطولة فيها الإســكافي الجار الذي رفضتــه في الواقع، لترتمي في أحضان غواياتــه المقنعة بلبوس التكنولوجي­ا الرقمية الافتراضية، وشــبكات التواصل الاجتماعي الحافلة بالنفاق والكذب والتزوير والمجاملات، والمشاعر البراقة الخادعة، ومكر المبحرين الذين لا يهمهم سوى قتل الوقت، وجني ملذات مزيفة يذكيها إدمان كابوسي.

وحتى يظل التلاقح التناصي حاضرا بين تجارب الكاتب الحياتية والكتابية، فقــد عمل على تضمين النصوص إحالات مرجعية تفضــي إلى متراكمه ذاك، إذ نلفــي، في الجزأين الثالث والرابع من المجموعــة، تلميحا صريحا إلى تجربته الشعرية الأولى «اشتباكات على حافة جرح قديم» سواء من خلال ورود مفردة «اشتباكات» في العنوان الفرعي، أو على مستوى المقاطع الشعرية التي أوردها القاص ضمن متن القصة، أو عبر الإحالات المرجعية الموثقة لاستعانته بنصوص شــعرية من دواوينه المنشورة: «زخات، مجرة المكاشفات» أو من خلال مرثيته السردية للشعر والشعراء، وكأنه يعزي الشاعر فيه، بعد قتله ودفنه مجازيا، عبــر الانتقال من لحظة الوفــاء للقصيدة، طوال عقدين ومــا يزيد، إلى لحظة خيانة «الجنس العشيق» والارتماء في حضن خليلة أخرى هي الكتابة السردية بأنواعها، دونما تفريط في المؤهلات الشــعرية، وممكنات السبك اللغوي التي يتيحها التمكن من مفاتيح المجازات والاستعارا­ت. يقول الراوي: )- وصديقك الشاعر أين شطت ناقته؟ -... ظننتك تعرف! لا أعرف ما جديده؟ - مات... دهسته شاحنة الأزبال، وهو يخرج من حانة قبل الفجر(. على الرغم من وفائه لعمود القصة القصيرة، وحفاظه على هيكلها النسقي، فقد ســعى جاهدا لتجديد القالب الســردي من الداخل، ســواء عبر اجتهاده في اختــاق بدايات ونهايات مربكــة للقارئ تخلخل ذهنيــة تلقيه التقليدي الاعتيــاد­ي، أو من خلال رهانه اللغوي المتعدد: )لغة شــعرية، لغة عامية، لغة أجنبية )إنكليزية، إســبانية( لغة شفافة( أو على مستوى الحركية التي خلقها تعدد الأصوات والشخصيات والمرجعيات، والنصوص الضمنية المحال عليها، أو عبر تركيزه على ابتداع مفارقات ســردية تتأسس على السخرية السوداء، والمفاجآت المعاكســة التي تؤوب إليها نهاية كل حكاية، وتفضي إليها مسارات كل شــخصية، قالبا بذلك المقولات المطمئنة، والمســكوك­ات النمطية، والمفاهيم المغلوطة رأسا على عقب، واضعا بذلك، قارئه في قلب الفجيعة الإنسانية التي يسير إليها عالم أعمى، تقوده لوبيات اقتصادية لا تشبع، ومُلقيا به ضمن دائرة الارتجاج الضمني الحاد كي يشاطر الباث فزعه الأكبر، وذهوله المرعب، أملا في أن يجعله يفكر بمنطق آخر، ويتمعن في إشــكاليات­ه بعينين مفتوحتين ووعي يقظ، ويولد الأسئلة الحقيقية التي يجب أن تتأسس عليها رؤيته لواقعه الآني والمستقبلي!

لم يترك صاحب «اشتباكات على حافة جرح قديم» أي طريقة ممكنة للتعبير، إلا طرق بابها، واســتعان بخدماتها في جعل محكيه مميزا، انطلاقا من الفراغ المفضي إلى الصمت وحديث البياضات، مرورا بنقاط الحذف.. وانتهاء بقصائد قالها في زمن ولّــى، ورأى أن يدبج بها مســروداته القصصية، بدون أن يحيد عن إفراطه الواعي في منح الكلمة لشــخصياته كي تبــوح، وتُعلي صوتها في أغلب مقاطع النصوص، احتراما منه لذكاء المتلقي، وإعلاء لوظيفة الشخصية المرجعية بالخصوص، داخل خطاب التلفظ، بل إننا نصادف، في مقاطع عديدة حضور قراء مفترضين: )يا ســادة( )أصدقكم القول( )لا تنظــروا إليّ هكذا... لســت محظوظا مثلكم... عذرا يا ســادة... صدقوني...( إمعانا منه في إشراك قرائه في صناعة العالــم القصصي، وإقحامهم في تقليب الحكاية على أوجهها، مانحا بذلك، نصوصه تماسكا فنيا صهر في نسيجه السردي كل ممكنات الهوية القصصية، زاد من صلابته الوصل الذكي بين التجربتين: الشــعرية والسردية ضمن منجز واحد.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom