Al-Quds Al-Arabi

رواية «هروب ابنة نوح»: تحررالمتخي­ل السردي من سلطة التاريخ

- ٭ كاتب عراقي

على الرغم من إمكانية إحساس القارئ بخلفية العلاقة بــن المتخيل الســردي الروائي والســرد الميثولوجي في رواية «هروب ابنة نوح» للروائي والشاعر العراقي صلاح حسن، إلاَّ أن الشخصية تأخذ حيزا مركزيا في بنية العمل، باعتبارها محورا أساســيا، للدخول إلى مرجعية الحدث الواقعي. والمقاربة السردية في هذا النص بمكونات قراءتها المتخيلة للواقــع، لم تمنــح حضورها المرتبــط بالذاكرة التاريخية، مساحة من الهيمنة والانحياز، من حيث المكان والزمان والوقائع، بقدر ما كانت الشخصية وحدة أساسية استند إليها البناء النصي، بكل ما جاءت عليه هذه الوحدة مــن خصائص فــي تركيبتهــا الســايكول­وجية، ولتكون العنصر المحوري في تشكيل هذا الأثر الفني.

حضور الشخصية

الشــخصيات المحورية فاتن، باســم، نرمــن، والموكل إليها مهمة إحالتنا إلى بنيــة العالم الروائي، قد تبدو على صلة محايثة مــع مرجعيــة واقعية وأســطورية، إلاَّ أنها بعيدة نســبيا عن هذه المرجعيات بمسافة ما، ويتأتى ذلك بفــرادة كينونتها العاطفية والأخلاقية في كل ظهور لها في سياق السَّــرد، فالشــخصية لم تنفتح في بنائها الروائي على شــخصيات محددة ذات هوية وسيرة تاريخية يمكن الاســتدلا­ل على وجودها الواقعي أو الميثولوجي المرتبط بزمكانية معينــة لدى القارئ، كما لا يمكــن إغفال إمكانية التقابل معها في المناورة الســردية، التــي جاء بها العمل، لأن بنية الرواية تدفع القــارئ في حبكتها إلى الدخول في عالم واقعي متخيَّل، تشــكَّلت مفرداتــه بفعل الانزياح عن بنى الســرود التاريخية والشــفاهي­ة، ربما نعزو ذلك إلى الخلفية الشعرية للمؤلف، فقد ساهم نأيه عن ما هو مألوف ومتــداول، اعتمادا علــى خصوصية لغتــه وقدرتها على لملمة الواقع والأخذ به نحو مســاحة مــن التخييل، إلى أن يتحرر عمله الروائي من ســلطة الحدث التاريخي، فتعامل معه بعلاقة قائمــة على الإيحاء، وليس على تقنية التمثيل والاســتعا­دة، بالتالي شــطَّ بــه بعيدا حتى عــن أنماطه المألوفة في المشــهد الواقعي، وهذا لا يعني أنه قطع أواصر هذه العلاقة مع الواقــع والتاريخ، بل حافظ عليها بخيوط يمكن إدراكها بصورة غير مباشرة، وهذه هي لعبة الفن في نزعته المتمردة على الواقع والتاريخ والأســطور­ة، عندما يحاول أن يشــتبك مع هذه العناصــر، فالفن لا يتخلى عن حريته أمام أي ســلطة مهما امتلكت هيمنة قد تصل بها حد التقديس، سواء كانت متوفرة في نص شفاهي أو مكتوب، وصلاح حسن في روايته التي تصدى فيها لتركيبة معقدة من العلاقــات، التي يتداخل فيها الرمــز بدلاته التاريخية والأســطور­ية، مــع الواقع المعاصــر، كان على قــدر كبير من الحساســية في التعامل مع هذه المســتويا­ت المتعددة والمختلفة، وبدا ســعيه واضحا في أن يحافظ على مسافة بين عالمه الروائي وهــذه المرجعيات، لأنه لا يريد لنصه أن يكون مثقلا بسلطتها.

ما بين المتخيل والميثولوج­يا

يحيلنا اسم نوح في عنوان الرواية إلى المتن الميثولوجي للوهلــة الأولى، غير أن هذه الاســتعاد­ة المفترضة التي قد ننســاق إليها ســرعان ما تتضاءل عندمــا ندخل إلى المتن الســردي، ولن يبقى منها إلا صدى لتلــك البيئة المتخيلة فــي الذاكرة الإنســاني­ة الجمعيــة، من غيــر أن يكون لها تســيد في المتن الحكائي للرواية، ولو افترضنا وجود هذه الصلــة فإن نوح مــدرس اللغة الإنكليزيـ­ـة المتقاعد، والد فاتن الشخصية المحورية، استحال إلى شخصية واقعية لا صلة لها بمرجعيتها الأسطورية، لكنها من الممكن أن تلتقي معهــا في ما تتحمله من مســؤولية أخلاقيــة إزاء العالم، لأن وظيفة الشــخصية في الرواية مازالت فاعليتها كامنة في ما تشــقه من سبل لإنقاذ البشــر، على اعتبار أن مســيرة حياتها كانت قد وسمتها مهنة التعليم والتنوير، ولم تتوقــف عن الإيفاء بمتطلبات هذا الدور، حتى بعد أن أحيلت إلــى التقاعد، فبقيت محافظة على خصوصيتها المهنية والإنسانية في حماية الإنســان مما قد يواجهه من مخاطر، كما فعل نوح فــي المروية الميثولوجي­ــة، ويبدو ذلك في حرص نوح في البنية الروائية المتخيلة على أن يتولى مســؤولية حماية ابنته، حتى بعد أن وصلت إلى المرحلة الجامعية وبدأت في دراســة الأدب الإنكليزي.

طوفان العقائد

إذا كان نــوح فــي الســرديات الميثولوجي­ة قد واجه مع قومه الطوفان، ففي هــذه الروايــة تواجــه ذرية نوح طوفــان العقائــد والأيديولو­جيــات، التــي اجتاحت منظومة البشــر القيمية وأحاطــت بهم من الداخــل، بضمائرهم وأخلاقهــم وغرائزهــم، وأحالتهم إلى كائنات ممســوخة في وعيهــا، كما هي شخصية باســم، الذي تحول من ضابط مخابــرات بعثــي ينتمي إلــى النظام السياسي الذي كان قائما في العراق قبل عام 2003، إلى عنصــر فاعل في تنظيم «القاعــدة» بعد هــذا التاريــخ، ثم إلى قيادي في تنظيم «الخلافة الإســامية» فكانــت العقائد المتشــددة هي الطوفان بمفهومه المعاصر، وبذلك جاءت المقاربة الروائية مع السردية التاريخية بحدثها المحــوري، الذي هو الطوفــان، انفتاحا جماليا في بنيــة النــص الروائي على النص الميثولوجي، من حيث إيجاد نقطة التقاء تحقــق التقابل بين الزمن الماضي والحاضــر، بقصــد تفكيــك العلاقات الســردية القائمــة بينهما، مــن منظار فلســفي وجمالي، ليس الغــرض منه توصيفا شكليا، وفي الوقت نفسه إيجاد نص سردي تخيلي يستمد حضوره من الواقــع، مقابل نص ســردي ميثولوجي يتحرك في منطقة التاريخ، بدون أن يلجأ فيه المؤلف إلى التناص أو الاقتباس، وليحتفــظ بذلك على خصوصيته، فالطوفان العقائدي الذي اجتاح البشــرية، وما تسبب به من تدمير للعلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، انزاحت بسببه الهوية الإنسانية إلى منطقة صراع وحشي تتنازع فيها الإرادات البشــرية تحت عناويــن أيديولوجية، كما تجســد في هذا النص، حيث بدا أشــد قســوة من طوفان الأمس، لان العناصر التي ينهض عليها، والتي تتصارع في ما بينها هم البشر أنفسم، أي الإنسان ضد الإنسان نفسه، وليــس ضد الطبيعة، بذلك يتحمل الإنســان المســؤولي­ة كاملة عن الطوفان الثاني الذي تسبب في اختفاء ريكاردو الطالب الجامعي حبيب فاتن، وفي اختفاء أي أثر لعائلتها، وفــي أن تصبح نرمــن صديقتها الإيزيدية مســبية تباع وتشترى في سوق النخاسة، قبل أن تتحرر وتصبح لاجئة في هولنــدا، وأن تتعرض فاتن إلى الاغتصاب والتشــرد والهروب بعيدا عن الوطن، ويتحول باســم من عقيدة إلى أخرى وكأنه يســتبدل ملابســه، لأجــل أن يحظى وبقوة القهر والاغتصــا­ب على كل ما يشتهي أن يمتلكه، بما في ذلك فاتن المســيحية ابنة منطقته. والمؤلــف عمــد علــى تغييب شخصية نوح والد فاتن، لتحل ذريته بــدلا عنه فــي مواجهة الطوفــان، وهنــا تتأســس خصوصيــة البنــاء الروائــي في هــذا العمل، بالاتــكاء على سلطة التخييل الفني، من حيث علاقته مع الذاكرة الميثولوجي­ة

صلاح حسن

والتاريخية، فالقصديــة لــدى المؤلــف لا ترتبــط بتلــك العلاقة الاســتعاد­ية الشــكلاني­ة للنص التاريخي والأسطوري، إنما انساقت إلى إجرائية إسقاطية إزاء الواقع المعاصر.

ذاكرة جريحة

فاتن الطالبة الجامعية المســيحية، لم تستطع أن تنسى ماضيها، الذي تحاول دائما أن تهرب منه، رغم أنها وصلت

إلــى هولنــدا، وأصبحــت لاجئة وباتت تنعــم بالأمان، على العكــس مــن صديقتها الإيزيدية نرمين التي سرعان ما تأقلمت مع البيئة الجديدة وارتبطت بعلاقة حب مع هولنــدي انتهت بالزواج، إلاَّ أن فاتن دائما كان الماضي يستيقظ فيها، كلما اختلت بنفسها، ليواصل تدمير كيانها الإنســاني، وإيقاف سعيها لتحقيق أحلامها في الحب والدراســة الجامعية للأدب الإنكليزي، إنــه القدر الــذي يلاحقها، فــي صحوها ومنامهــا، رغما عنهــا. والرواية في معالجتها للإشــكالا­ت النفســية التي تعاني منها المرأة، عندما تقع فريســة للاغتصاب والعنف، قدمت لنا في بنية خطابها قــدرا كبيرا من العمق والجرأة، وتوغلت لغتها بعيدا في عوالم الأنثى الداخلية، للكشــف عما هــو مدفون فيها من هواجس الخــوف والرعب. ومنذ السطور الأولى عمد المؤلف عبر الراوي العليم، إلى ايصال الأزمة النفسية والإنســان­ية التي تعصف بشخصية فاتن بعد مــرارة التجربة التي عانت منها فــي العراق، وتركت فيها جروحا داخلية وخارجية، وشــقاء نفسيا ترزح تحت ظلاله، لكنها ما أن تختلي بجســدها في الحمام تجد نفسها تتحســس جرحها، الذي لم يندمل بعد، وكأنَّ منظر الجسد يفجر فيها ما كانــت تحاول أن تطمره بعيــدا عن ذاكرتها التي مازالت تمد خيــوط الارتباط مع الماضي، حتى أنها لم تكن تملك ما يكفي من الشجاعة للحديث أمام الآخرين عن ســبب وجودها في هولندا، إذا ما طرح عليها هذا السؤال، فالمشــكلة لديها لم تعد في اللغة الهولندية، لأنها اصبحت تتقنها خلال الســنة الأولى من دراســتها، لكن المشكلة في عجزها عن المصالحة مع نفســها، لأنها مازالت عالقة هناك، في تلك الهوة المخيفة التــي مازالت تقبع فيها، عندما كانت مختطفة من قبل باســم، وكأنه ما يزال يغتصبها ويمارس بحقها كل أنــواع القهر والإذلال الجســدي، إرضاء لرغبة قديمة محبوسة في داخله بأن يمتلكها، منذ أن كانت شابة تضج أنوثة في السابعة عشــرة من عمرها، وما أن حانت الفرصة بعد سقوط الموصل تحت ســلطة تنظيم الخلافة، واصبح قائدا في التنظيم حتــى عمد إلى اختطافها. ورغم مــا كان يحيطها مــن بيئة آمنة فــي بلد اللجــوء، إلاَّ أنها تجد نفسها تســقط مرة أخرى في تلك الدوامة من مشاعر الخوف، عندما تكتشــف عبر رســائل ورقية وصلتها من باسم عن طريق البريد، مع قرص مضغوط حمَّله صورتين، الصورة الأولى أيام كان قائدا فــي التنظيم، بلحية كثيفة وصلعة واضحة، وجرح قديم على الخد الايسر، والصورة الثانية بعد أن اســتقر في هولندا ويظهر فيها بشعر قصير وكثيف، وبــدون لحية ولا أثر للجرح على الخد الأيســر، ويتصاعد حساســها بالقهر إلى وتيرة عالية عندما يكشف لها أنــه كان وراء عملية التخطيــط لوصولها إلى هولندا، حتى يحتفظ بها وتبقى في دائرة ما يحرص على امتلاكه، فتتولــد فــي داخلها رغبة عارمــة بالانتقام منــه، بعد أن يخبرها بأنه يســكن على بعد خطوات منهــا، فتعزم على بناء خطة محكمة لاستدراجه إلى شقتها، وتنجح في قتله، ولتفرغ ما بداخلها من إحســاس بالقهر والظلم بعد أن كان مسؤولا عما أصاب حياتها من تدمير.

«هــروب ابنة نــوح»: المؤلف صلاح حســن / الناشــر : دار الدراويــش للنشــر والترجمــة ـ بلوفديــف ـ بلغاريــا .. الطبعة الأولى: حزيران/ يونيو 2020 / عدد الصفحات 88

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom