Al-Quds Al-Arabi

روح المواطنة في مواجهة الغزاة

رواية «أضلاع الصحراء»

-

عند قراءة رواية «العطر» لباتريك زوسكيند، تساءلت ما أكثر ما قرأ هذا الروائي في التاريخ الفرنســي القديم والحديــث، ولاســيما تاريخ فرنســا في القــرن الثامن عشــر، حيث تجري وقائع روايته، بل ما أكثر ما قرأ في جغرافيتهــ­ا الطبيعية وقتذاك؟ فضلا عن قراءات عميقة فــي العطور، لا الحديث منها فقط، بــل القديم وتحديدا عطور ذلك الزمن.

تبــادر إلى ذهني هــذا التســاؤل، وأنا أقــرأ الرواية التاريخيــ­ة «أضــاع الصحــراء» التي أبدعهــا الروائي المصــري إدوار الخــراط )1926 ــــ 2015( هــذه الرواية الناهلــة عميقا من التاريخ المصري أيام الدولة الأيوبية، وبالحري أواخر أيامها، وتحديدا العام الأخير من حكم الملــك الصالح؛ نجــم الدين أيــوب، الذي شــهد الغزوة الصليبية الســابعة، التي قادها الملك الفرنســي لويس التاســع عام 647 للهجرة، ونزولهــم في أرض دمياط، ومــن ثم توغلهم في الأراضي المصرية يريدون القاهرة، وانطــاق المقاومــة الباســلة للمصريــن ضــد الغــزاة الفرنجة، وضرب خطوطهم الخلفيــة، ومراكز التموين والتســليح، وما كانت هذه المقاومة خالصة للمســلمين فقط، بل شــارك فيها المســيحيو­ن المصريــون، وما هذا بجديد على المسيحيين العرب، فقد سبق أن شاركوا في بلاد الشام في مقاتلة الفرنجة، بقيادة التنوخيين.

معا

يســتلهم الخــراط ــــ الــذي قــرأ كثيــرا فــي التاريخ ــ الصــور الجميلــة لعلاقــة المواطنــة، ورابطــة الإخاء الإسلامي المسيحي دفاعا عن الوطن.

ففي أثنــاء النزوح من دمياط التي نــزل فيها الغزاة الفرنجة، يلتقي مصادفة الشيخ عبد الله، بجبرة؛ جبرة بــن توفليس الصبــاغ، الجار القديم، الــذي مضت نحو ثلاثة عقود منذ أن افترقا.

- أتذكــر يا عبد الله؟ كنا أولادا في العاشــرة، عندما خرجتــم من دميــاط إلى الإســكندر­ية.. أيــام.. أيام لن تعود.. ألا تذكر؟ عرفتك أنا من وجهك وقامتك أرأيت يا عبــد الله؟ ها نحن مهاجرون أيضا من وجه الغزاة، كما فعلتم أنتم منذ ثلاثين ســنة.. ما كان لنا عيش في البلد بعد أن خرج أهلها جميعا. أننســى نحــن ما لقينا منهم المرة الفائتة؟ كسرهم الله بحق الصليب.

ويتــوج هذا اللقــاء الإســامي المســيحي، بضرورة مقاومــة الغــزاة، وتكــون ضمانته قطعة خبز مغمســة بالملــح، أكلوا منهــا في رصانة وصمــت، متوجهين إلى دمياط، جاعلين من اللباس الكهنوتي الأســود، والزنار المتدلي من أوســاطهم، فضــا عن الصليــب المعلق في الرقــاب متدليــا علــى الصــدور، ووشــم الصليب على أجزاء من أجسامهم، جاعلين من هذا كله درءا وتمويها كي يجتازوا نقاط المراقبة والتفتيش، التي بثها الجيش الفرنســي الغازي، وكي يتولوا من ثم ضربه في أماكن انتشاره.

الموسوعية

الروائي المصري الراحل يسرد علينا صورا من حياة الملــك الصالح، الــذي ضربه المرض في نقطة حساســة من جســده؛ عند خصيتيه، وانتشــر الــورم الوبيل إلى مأبضه؛ أي إلى باطــن ركبته، قراءاته في الطب القديم، جعلتــه يطلعنــا على كيــف يتولــى الطبيب أبــو حليقة تطبيب الملــك الصالح، ووصف الــدواء، وحالة المرض أو الأمراض التي ألمت به، وشــفاء وبرء بعضها، فضلا عــن اســتفحال علــة بعضها الآخــر، وكيفيــة فصد دم الملــك، كما أنه اطلع علــى عوالم الأبراج وألــم بها، وهو علم عصي على الإفهام، نســتنتج ذلك من سرده للوقت الملائم للفصد أو الحجامة. الملك وهو في أوجاعه القاتلة يسأل طبيبه: - أحجامة اليوم أيضا؟ فمــد الطبيــب يــده يجس نبض ســيده، ثم قــال بعد لحظة تأمل:

- بإذن الله يا مولانا.

- ولكننا لســنا في وسط الشهر يا شيخنا، نحن في عشــرين خلت من صفــر، وقد تناقــص النور في جــرم القمر، وعــادت أخــاط الجســم إلى الاســتقرا­ر بعد هياج، فما تنفع الحجامة.

- زادك اللــه علمــا وفقهــا بأمور دينك ودنياك يا مولاي. حق ما تقول، وإنما يتبقى على ذلــك، أن نخلــص الأخلاط مــن الــدم الفاســد الذي ينفثه الطبع في السعال، فالحجامــة نافعة، وهي تنفــع أيضا في جراحات الســاق. وعن أشــياخنا أنها يتطبب بها من وجع الصــدر، إلا أن الأزيــاج تنبئ بطابع يســر وبركة في الطــب. نحن في برج الجــوزاء، وقــد اقترنت الزهــراء بالمشــتري. وســوف تصبــح عليــك الجمعــة في خيــر، بإذن الله.

الوعي التاريخي إدوارد الخراط

وإذ يــدال بلويــس التاســع، بعــد الهزيمــة النكــراء لجيشــه فيأمر بقاياه بالانسحاب، ومن ثــم يطالــب بوقــف الحــرب وطلب الأمــان، فــإن البعــض من الجنــد المصريــن يرفض منحه الأمان ولعساكره المهزومين، مطالبين بجز رأسه

وأكابــر قومه، وإرســال هذه الرؤوس المجــزوزة مرفوعة على الحراب إلى العاصمة القاهــرة، دلالة على هزيمة الجيــش الغــازي، لكــن الشــيخ عبداللــه الــذي جعلــه إدوار الخراط، يمثــل الفعل الإيجابي في هذا المعترك، يطلق قولته:

ـ معــاذ اللــه يا رجــل.. مادامــوا طلبوا الأمان.. والله ما ننقض عهدا أخذناه، ولا نكسر أمانا.. حرام عليك يا رجل. إدوار الخراط كي يخرج علينا بمدونته هــذه؛ روايته ما اكتفــى بقراءة التاريــخ المصــري لتلــك المدة، بل قــرأ فــي التاريخ المــوازي؛ التاريخ الفرنســي، فهــو يذكر قــادة الجيــش الفرنســي الغــازي، وأعضــاء مجلــس الحــرب، الــذي كان يــدرس وقائــع المعــارك ومجرياتهــ­ا، فضلا عن أشــقاء الملــك لويس الثلاثة ومقتــل أحدهم، ووقوع الاثنــن الآخرين في الأســر مع شــقيقهم الملك، لكن المصريين، علــى الرغم مــن جرائم الجيش الغازي، احترموا قواعد الحرب وردوهــم إلــى بلادهــم «بعــد أيــام أقلعــت بهم الســفينة إلى الشــمال، وعــرف الأســرى أن الاتفــاق قــد انعقد علــى توثيق العهد، الذي كان لويس التاسع قد قطعه على نفســه بدفع فدية قدرهــا خمــس مئة ألــف جنيه والجلاء عن دمياط.»

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom