Al-Quds Al-Arabi

عن كاتب افتراضي عاش حياة حقيقية

- ٭ روائي لبناني

سبســتيان نايت اســم افتراضي لشــخص افتراضي، حســب ما أعلَمَنا واجدُه، أو مخترعه، فلاديمير نابوكوف. في الســطر الأوّل نقرأ تعيينا ليوم مولد سبســتيان هذا: 31 ديســمبر/كانون الأول 1899 أي أنه، حــن يطلع فجر النهار الأول، أو القرن الجديد، القرن العشــرون، سيبدأ اليوم الأول مــن حياته. هنــاك أيضا تــازم آخر لهذا التعيين، حيــث أن نابوكوف نفســه كان قد وُلد في تلك الســنة، في ســبتمبر/أيلول، سابقا بطله الافتراضي بشهرين أو ثلاثة أشــهر. هذا ما يدل، بين وقائع ومصادفات أخــرى وردت في الكتاب، إلى أن الروائي ربما كان يكتب ســيرته الخاصة، من خلال شــخص آخــر يقــول إنه أخــوه غير الشقيق، إذ كان كل منهما، حسب الرواية، قد ولد من أمّ، فيما والدهما واحد.

هي سيرة نابوكوف كاتبا، أو هي نسخة أخرى عنه جرت في غير مجرى القدر، الذي صنع حياته. هي سيرة ثانية مختلفة عن سيرة حياته الأخرى التي كتبها نابوكوف في فترة متأخرة من حياته، على غرار ما تُكتب الســير الشخصية عادة. يذكر أنه سبق عرض تلك السيرة، الحياتية الشخصية، على هذه الصفحة. إذن، ذلك الشخص الافتراضي هو، في الرواية، أخ راويها، وهو غريب منذ طفولته وممتلئ موهبــة. كانت حياة الأخوين قد بدأت مع شــخصية غريبة هي أيضا، الأب الــذي، رغم أنه كان منفصلا بالطلاق عن زوجتــه الأولى، والدة سبســتيان، دعا للمبارزة رجلا قال عنه إنه كان بصحبتها. وقد ســقط الأب قتيلا، هكذا، بعد ثوان من بــدء المبارزة، وهذا ما جعل الحياة المشــتركة قليلة بين الأخويــن. إلا أن الكاتب، أو الراوي، لم يوقف تقصّيه عن حياة شــقيقه، منذ ولادته قبل ستّ سنوات من ولادته هو، تبعا لما تورد الرواية عن الشــقيقين. كما كان عليه، لتكون سيرة أخيه تامة، أن يجري لقاءات مع نســاء ورجال عرفوه، ليفــكّ ألغاز تلك الحياة الغامضــة. اللقاءات التي كانت تجري بينهما، بمحض المصادفة، في باريس أو فــي لندن، أو في إحدى مــدن ألمانيا، لم تزد في معرفة أحدهما بالآخر، لذلــك كان على الأخ كاتب الســيرة أن يظلّ مرتابا متشكّكا في ما يسمعه من الآخرين، بما يجعل تحقّقه من روايات الأشخاص عن أخيه السلسلة التي تجمع بين حلقات الرواية وتضفي عليها التشويق الضروري.

سبستيان كاتب فائق الموهبة، حسب الراوي، الذي سعى إلى تأليف حياة كاملة تامة لشخصيته الافتراضيـ­ـة. لقد اختــرع له شــخصيات كثيرة رافقــت حياته، وجعل كلا من هذه الشــخصيات كاملة الوجــود وتامــة الطباع، علــى الرغم من الاختلاف الشــديد بين واحدهما عن الآخر. وفي ما يتعلّق ببطله سبستيان اخترع له كتبا لم يكتف بذكر عناوينهــا: «ألفص الموشــوري، «النجاح» «ملكيــة ضائعة» «ألبينــوس باللون الأســود» وغيرهــا، بل حرص على أن يطــرح تلخيصا لكل من هــذه الكتب، مكابدا كل المشــاق اللازمة لعمل كهذا، بل إنه استشهد بفقرات كاملة من تلك الكتب بلغت أحيانا عــددا من الصفحات. كان غرضه من ذلــك، بل أحــد أغراضه، أن يثبــت عظمة الكاتب العبقري، فلنتخيّل كيف يمكن لمن ينســب لواحدة من شخصياته هذا الإبداع الفائق ألا يكون يقصد أن من يعنيه بذلك ليس إلا هو نفسه.

لم يكــن نابوكوف يحكي إلا عن نفســه، حين كتب عــن صراع الكاتب، وأمثاله مــن الكتّاب، مع الكلمات، أو عن سدّ الفجوة بين التعبير والفكرة: «كان لديهم ذلك الدافــع الباعث على الجنون بأن الكلمــات، الكلمــات الصحيحة فقــط، تنتظرهم عند الضفة المقابلــة، على مســافة ضبابية، وأن الفكرة لا تزال ترتجف عاريــة عند الجانب الآخر من الفجــوة، تصرخ مطالبة بكســوتها». أما ذلك التصــارع العنيد بــن الفكرة وكســوتها فتجعل سبستيان يشــعر «كأنه طفل أعطي كومة أسلاك وأُمِر بتوليد الضوء .»

سبســتيان «لم تزعجه البتة مجلات القصص المثيرة الرخيصة، لم تكن أعمال الدرجة الثالثة أو التاسعة هي ما يثير حفيظته، بل روايات الدرجة الثانية، سهلة التداول، إذ عندها فقط يبدأ الزيف الأدبي، وهذا مــا كان يراه، بالمعنــى الفني، غير أخلاقي». أما مــا يطلق عليه عبــارة «الانحطاط الســري، ذاك الذي نــراه، كما يقــول، في أغلب الروايات المعاصرة، فهو الأسلوب الدارج في جمع مجموعة من الأشــخاص ضمن مســاحة محدّدة، فندقا، جزيرة، شارعا، إلخ.

في الفصول الأخيــرة من الرواية، وهي تتعلّق بموت سبســتيان، الغامض هو أيضا، نقرأ ما هو تمرين فائق الدقة، كما فائق المجازفة، وقوامه وضع الكلمات على فم سبســتيان، أو في يده الممســكة بقلم، ليصف لحظات الغيبوبة التي تسبق الغياب )الموت(. هو وصف تفصيلي لذواء الحواس في ما هي تتراجع نحو الانطفاء، وللصور التي يشكّلها ويلوّنها العقل، وكذلك ما تختاره الذاكرة من صور الأزمنة الفائتــة لتقطِّعها وتُداخــل بينها، وكيف يجري ذلك التداخــل والاختلاط. ونحن نقرأ تلك الصفحات نقــف حائرين بين مــا يثيره الخوف من الموت، من جانب، ومــا يقوله الإبداع الكتابي جاعلا الموت موضوعا للكتابة، وليس مأساة موت فعلي. كأنها، هي الكتابة، تطير، تحلّق مبتعدة عما تكتبه، لتكون أكثر علوّا من أي مأساة.

شــأن بطلــه سبســتيان المتنقــل بــن المدن الأوروبية بعد رحيله عن بلده روســيا، كما شأن آخرين من مثقفي روســيا وكتّابها في ذلك الزمن، وبينهم نابوكوف الذي كانــت هذه الرواية عمله الأول باللغــة الإنكليزية بعد أعمال ســبقت كان كتبها بالروســية، وفــي الرواية نلاحــظ تردّد سبســتيان بين اللغات والبلدان. الرواية صدرت عام 1941 واعتبرهــا النقاد آنذاك، عملا ســبّاقا مؤسســا لما عــرف في ما بعــد بالروايــة الما بعد حداثية.

٭ روايــة «حيــاة سبســتيان نايــت الحقيقيــة» صدرت عن منشــورات الجمل بترجمة حنان يمق في 237 صفحة ـ 2020

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom