Al-Quds Al-Arabi

حركة الترجمة والنقل في العربية: المراحل والمنهجية

-

لم تكن للعرب قبل الإسلام عناية بالقراءة والكتابة. ولم يعرفوا العلوم والمعارف المختلفة، بطريقة معمقة، كغيرهم من الأمم التي سبقتهم. ولم تبدأ عنايتهم بالكتاب والكتابة والترجمة، إلا بعد خروجهم من رحمهم، وســط الجزيرة العربيــة. واحتكاكهم فعليا بمن حولهم، ومعايشــته­م لهم. وأول حدث ذكره المؤرخــون في ما يخص موضوع الترجمــة، يعود إلى أكثر من نصف قرن على ظهور الإسلام، عندما طلب الخليفة الأموي مروان بن الحكم من طبيبه ماســرجويه، ترجمة كُنّاش الطبيب أهرن بن أعين الإسكندران­ي فــي الطب. وقد جعله في خزانــة كتبه الخاصة، مخافة مــن العوام، كونه يحوي مقالة مفصلة في التشــريح. إلى أن أتى الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأخرج الكتــاب من الخزانة الخاصة، وجعله في متناول يد القراء، ومحبي الاطلاع، معتبــرا أن العلم يجــب أن لا تتحكم فيه غوغاء العــوام، ولا أن يخضع لأهواء الفقهاء، طالما أن دعوة القرآن للعلم والتعلم واضحة، لا لبس فيها، ولا قيود.

ويذكر بعض المؤرخين أن ابن أسال، طبيب معاوية بن أبي سفيان ترجم

لوحة من كتاب كليلة ودمنى

له أكثر مــن كتاب في أقوال الســابقين، وحِكَمِهم، وتاريخ الأمم الســابقة. وتابعت الترجمة مســيرتها في تلك الفترة ما بين رسالة هنا، وكتاب هناك، بدون أهميــة تذكر. وبدون أن تكون حركة منظمة، حتى كان زمن أبي جعفر المنصور، الذي استدعى جورجيس بن جبرائيل بن بَخْتَيَشُوع شيخ الأطباء في جُنْدِ يســابور. لعلاجه من اسْــتِمْراء في مَعِدَتِه، ويُبُوسَــة في بشرته، فاطلع الخليفة المنصور يوما، على بعض الكتب التي كانت بحوزته. فأعجب بها. وطلب منه ترجمتها إلى العربية، ليســتفيد منها طلاب العلم والعلماء. وكان قد تُرْجِم قبلها «كتاب كليلة ودمنة » لابن المقفع، ولقي إقبالا وشــهرة. ولم يكتف الخليفة بذلك، بل أرســل إلى ملك الروم الهدايا النفيســة، مرفقة برسالة، طلب فيها بعضا من كتبهم العلمية، فكان له ما أراد، وقام جورجيس بترجمتها. فكانت البداية الفعلية لحركة ترجمة شبه منظمة، تبنتها الدولة متمثلة في الخليفة.

وشــهدت الترجمة في ما بعد، نقلة نوعية كبــرى، أيام الخليفة المأمون، الذي أنشــأ «دار الحكمة» التي كان لها دور ريــادي وثقافي معرفي. يُعْتبر الأهم في حياة العرب والمســلمي­ن خاصة، وفي الحضارة الإنســاني­ة عامة، الذي طلب من ولاته أن يرســلوا له كتب السابقين العلمية والفلسفية، التي

يجدونها في بلادهم، وكذلك أرسل الوفود والبعثات العلمية لتبحث وتفتش عن الكتب العلمية والفلسفية، وتحملها إلى بغداد كي تُترجم. ويستفيد منها الطلاب والعلماء على السواء. ونستطيع القول، إن عملية الترجمة والنقل إلى العربية مرت بمرحلتين:

الأولى: وهــي مرحلة غير منظمة، تُرْجمت فيهــا بعض الكتب، بناء على رغبة بعض الخلفاء، أو الوزراء، ولم يكن يشرف عليها مسؤول، ولا توجد لها مؤسسة، ولا مدرســة. وأحيانا تمت بوازع شخصي من بعض العلماء، أو الفلاســفة، أو الأطباء. وبقيت هذه الترجمات من خصوصيات من طلب ترجمتها، أو قام بها، ولا تخرج أحيانا للناس ليستفيدوا منها.

الثانية: وهي المرحلة التي غدت فيها الترجمة عملية منظمة، لها ديوانها الخاص، ومدرســتها، والمشــرفو­ن عليها. وأصبح لها جيش من المترجمين. يتبارون فــي ما بينهم من أجل إخــراج نفائس الكتب، فــي مختلف أنواع العلوم والمعارف، وقد تمت تهيئة كل مســتلزمات­ها التي تســاهم في دعمها وتطورها؛ من مصانع ورق، ونساخ، ومزوقين، وخطاطين، وخلافهم. لتمتد حركــة الترجمة أيضا إلى خــارج بغداد، وتشــمل مدن وأمصار دولة الخلافة، التي تنافس ولاتها في بذل الأموال من أجل إنشاء المدارس، ودور العلم والمكتبات.

أجواء علمية مشجعة

وقد لعب تشــجيع الخلفاء والوزراء والــولاة، دورا مهما في تطــور العلوم عمومــا، وحركة الترجمة خصوصــا، ودفعها إلى الأمــام، فكانت العطايــا والمكافآت تتجاوز أحيانــا حد المعقول. وكانت الكتب المترجمة أو المؤلفة، توزن أحيانا بالذهب والفضة، وترفع أيضــا من مكانة صاحبها، وتقربه مــن الخليفة أو وزرائه وولاته، وكذلك أســهمت الأجواء السياســية والاجتماعي­ة، وما شــاع من أمن وأمان، وحريات، في تطور العلوم، والســير قدما في عمليــة الترجمة. ومما كان له أثر كبير لا يقل أهمية عن العامل المادي، هو فتْحُ الباب للعمل في ميدان الترجمة لكل المؤهلين لذلك، الذين كان يؤتــى بهم من مختلف الأقطار لســمعتهم، ومقدرتهم العلمية، ولمعرفتهم في اللغات المختلفة، وتملكهم لناصيتها، بدون النظر إلى عامل الدين، أو الانتماء العرقي، فقد كان من المترجمين من هم نصارى، مثل إسحاق بن حنين. ويهود، مثل ابن النرجيلة. ومجوس، كابن نوبخت. وصابئة، كثابت بن قرة. وشــعوبيون فــرس، يكنون للعرب الكــره، مثل علان الــوراق. وهنود، كابن منكّه. ويونانيون، مثل نظيف القس الــخ... وقد خرجت من بين أيدي المترجمــن في تلك المرحلــة، مجموعة ضخمــة من الكتب العلمية، في مجالات العلوم النظرية والتطبيقية المختلفة. شكّلت حجر الأساس في الحضارة العربية والإنسانية. التي ما زلنا ننام على أمجادها حتى يومنا هذا. ولا شك في أن العلماء والمفكرين حينها، ذهبوا بعيدا جدا في فهمهم لكلمة «لغة» الواردة في الحديث الشــريف «من تعلم لغة قــوم أمِنَ مَكْرَهُم» حيث أنهم لــم يحصروها في اللغة المنطوقة والمكتوبة والمقروءة، بل تعدى فهمهم لها إلى المعرفة بمفهومها المطلق، والفكر نفسه. وإلى مجمل العلوم والثقافة بشــكل عام، وفهموا ذلك أيضا، على أنه دعوة غير مباشــرة للانفتاح على الثقافات المختلفة والعلوم والحضارات الأخرى، وهو الأهم بلا شك.

طبقات المترجمين

لم تكن تلك الترجمات التي أنتجها ذلك الرعيل الأول من النقلة والمترجمين علــى المســتوى اللغوي نفســه، ولا تتســاوى أيضا من حيث الأســلوب الإنشائي، وقوة الصياغة، بســبب طبيعة المواد التي كانوا يترجمون لها. والتي غلب على أكثرها الطابع العلمي، الذي من خصائصه اللغوية الجفاف في طبيعة المصطلحات، وانتفاء الشاعرية عن التعابير. وهذا التفاوت ليس محصورا في الأســلوب والصياغة، بل يتعداه إلى صحة ودقة بعض المواد العلمية المترجمة. ويعود ذلك في الأســاس إلى كثرة العاملــن في الترجمة ومســاعديه­م، أو تلاميذهم. ويمكننــا حصر المترجمين حينها في ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى: مترجمون متمكنون مــن اللغة العربية، وقواعدها صرفا ونحوا، واللغة التــي يترجمون منهــا، بالإضافة إلى تمكنهــم من العلوم المختلفــة، التي يترجمون كتبها نظريا وعمليــا، وهؤلاء خرجت الترجمات من بين أيديهم في غايــة الإتقان والدقة، قوية الديباجــة اللغوية، ونادرة الأخطاء علميا ولغويا على السواء.

الطبقة الثانية: مترجمون متمكنون من العلوم التطبيقية، التي يترجمون كتبها، ولكن معرفتهم باللغة العربية وقواعدها وأساليبها، محدودة نسبيا. وهؤلاء كانت ترجماتهم جيدة من الناحية العلمية، ولكن تكثر فيها الأخطاء اللغوية، وغالبا ما تكون جافة الأســلوب، صعبة القراءة، تســتغلق على القراء.

الطبقة الثالثة: وهــؤلاء بلغوا معرفة جيدة في اللغتــن؛ المنقول منها، وإليها. غير أن معرفتهــم العلمية في المادة التي يترجمونها كانت محدودة، فكانــت ترجماتهم جيدة مــن الناحيــة اللغوية، ولكنها حملــت كثيرا من الأخطاء العلمية والتطبيقية. وكان جُلُّ هؤلاء من طلاب العلم.

وكانت الترجمة تخرج من بين يدي مترجمها أحيانا بدون أن تنال الرضا المطلوب من قبل المشرف عليه، فلا تُعْتمد الترجمة، ويقوم آخر بالعمل نفسه مرة أخــرى، وأحيانا كان المشــرف يطلب من مجموعة مــن الطلاب القيام بترجمة كتاب بعينه، كل على حدة. وأحيانا كانت تتم الترجمة في اتجاهين، بأن تتم إلى العربية بشكل مباشــر، في الوقت الذي يقوم بعض المترجمين بترجمة الكتاب نفســه إلى السريانية، أو الفارســية، ومن ثم إلى العربية. وأحيانا بالعكس. وهو ما أدى بالتالي إلى وجود عدد لا بأس به من النسخ المخطوطة للكتاب الواحد، تتفاوت من حيث الجودة والرداءة والأخطاء.

مصاعب وإبداعات

واجه الرعيــل الأول من المترجمين، مصاعب كثيرة أهمها؛ وجود كم كبير من المصطلحات في العلوم النظرية والتطبيقية، التي يتم نقلها إلى العربية لأول مــرة. ولا يوجد لهــا مقابل في العربية. فعمــل المترجمون حينها على نحــت المصطلح العربي المقابــل وابتكاره، بدون أن يكــون لذلك المعنى أي علاقة باللفظ المترجم، وذلك مثــل؛ الوريد الأكْحَل، والأخْدَعَين، والأبْهَرَين، والأبْجَلين. وهي مفــردات لأوردة وأوعية دموية، لا تــزال إلى يومنا هذا، تحتفظ بمُســمياتها التي نحتها المترجمون الأوائــل. وكان عمل المترجمين حينهــا يتم في اتجاهين في آن معا، حيث كان عليهــم بالإضافة إلى ترجمة الكتب، أن يقوموا بوضــع المصطلحات التي ينحتونهــا ويجترحونها في قوائم. لكي تكون هي الُمتَّبعة والُمعْتمدة في كل الترجمات الأخرى، وشــكلت هذه القوائم في مــا بعد قواميس علمية، اســتخدمها الأطباء، والفلكيون، والرياضيــ­ون، والفلاســف­ة علــى اختلاف عصورهــم، وكثيــر من هذه المصطلحات التي أبدعوها حينها، دخلت اللغات الغربية وقواميســه­ا، ولا تزال مســتخدمة لديهم حتى أيامنا هذه. وقد تجلت براعة بعض المترجمين مثل إســحاق بن حنــن، والحجاج بن مطر، وقســطا بن لوقــا البعلبكي، وإبراهيم بن الصلت، وبقية جيش المترجمين من خلال مقدرتهم على تطويع الألفاظ والمصطلحات ونحتها وابتكارهــ­ا، وتملكهم ناصية اللغة. فبرهنوا من خلال ترجماتهم، علــى أن اللغة العربية لم تكن يوما لغة عقيمة جامدة، بل هي لغة حيَّة، تتقبل التطور، وتستوعب المصطلحات العلمية، والفكرية، حتــى إننا نلاحظ أن قراءة كتاب ترجم حينــذاك، وخرج من بين أيدي ذلك الرعيل في الطب، أو الفلسفة، أو المنطق، أو الفلك، يحس فيه القارئ سلاسة أدبيــة، وحبكة لغوية، أكثر ممــا يجده في بعض الروايــات، وكتب الأدب الحديثة، وحتى دواوين الشعر في هذه الأيام.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom