Al-Quds Al-Arabi

التشكيلي العراقي فاضل ضامد: اللوحة الرقمية الغاضبة في زمن كورونا

-

ينفرد التشــكيلي العراقي فاضل ضامد عن غيره، بكونه يحوّل اللوحة إلى حوار شــفاهي، وكأنه يرسم قصيدة أو لوحة تعبيرية خاصة به، وهو يســتلهم حركة الفرشاة مثلما يستلهم الحرف في كتابة القصيدة التعبيرية، التي يكتبها وينشرها في مواقع عديدة، حتى لكأن القصيدة أو الســرد التعبيري، كما يســميها، هي لوحة تشــكيلية من حروف، واللوحــة التي لديه هي قصيــدة من حركة فرشاة وألوان.

فاضل ضامد فنان مسكون بالعمل، ودائم البحث عن التجديد. ففي المعنى المضمر للوحاته، نجد أن هناك تعبيرا عن الداخل، الذي يريده أن يكون مواجها للعالم. فهو معني بإظهار الغضب النفســي على الواقع، من خلال لوحة تأخذ من صراخ الإنســان الذي يجعله عبــارة عــن تراتبيةٍ لونيــةٍ مزدحمــةٍ، يكوّرها ويجمعهــا في مكانٍ واحــدٍ في ما يترك المســاحات الأخــرى، ليملأ المتلقّــي ما يريد في تلك المســاحات لإكمال التأويل الغاضب، وهو غضب الواقع الذي يعيشه الإنسان والعراقي بوجه خاص.

فهو يجرّب ويجدّ في لوحاته عبر طريقتين.. الأولى: عبر اللوحة الفنية القماشية، إن صح التعبير. والثانية: عبر تقنيات الحاسوب، لكننا نجد أن خطوطه تبقى غاضبة.

ففي لوحته التي ربما أطلق عليها لوحة الغضب اللوني، نجد أنها تمثّل الإنســان على شــكل بدلة أو قميص، مزدحمة بألوان عديدة، محتشــدة وكأنــه يريــد إظهــار هــذا الكم الكبير من الغضب المتنوّع، وليس الإنسان الازدواجــ­ي أو المتقلّب، فذاك له لونان من العمل المختلف اتجاه العنف الإنســاني، لكنه هنا جعله وكأنه يسكب جام غضب ألوانا علــى المحيط، فهو إنســانٌ متورّمٌ بمــا لا يمكــن إحصــاء الصفعــات التي يتلقّاها حتى إنه جعل البدلة، عبارة عن رأسٍ متوتّر محصورٍ بأعواد الخشب، والكتفــن الأزرقــن يــدلّان علــى عدم ا لا ســتكا نة أمــام الرتب ا لعا ليــة للطغيــا ن ، ومــن ثــم وزّع البدلــة علــى شــكل مر بّعــا تٍ ودو ا ئــر لو نيــة متجــاورة، وكأنــه يريد البــوح بــكلّ شــيء، وإن هذ الإنسان عبــارة عــن بدلةٍ يمزقّها الطغاة ـ خاصة أن هناك أســاكا شــائكة تعلــو البدلة، في ما ترك الشــمس في أعلى اللوحة، وكأنها محبوســة، وقد دقت بمسامير من نار، رغــم أن هناك ما يلوّح لوجود الماء تحت نار الشــمس، في إشــارة إلى الأمل المرتبط بالصراخ، الذي يريــده ضامد أن يتحوٍّل إلــى غضب جماهيري، وكأنــه يقدّم لوحة احتجاجيــة على الزمن الذي يعيشه.

الإنسان والقلق

في لوحــات ضامد كلّ هذا الاختلاط اللونــي.. في أغلب أعماله ثمة رســالة لا تشــبه الأخرى، فهو يمزج الألــوان بطريقة الغضب، وكثيرا ما يترك لوحاته بلا عنوان، وكأنه يريد للمتلقّي أن يشاركه في صنع اســم أو عنــوان للوحة التي يراها، ويمــأ الفراغات التي يريدها في اللوحة بما تمكّنه كمتلقٍ من التســارع مع اللوحة المعنية بالغضــب. ولهــذا نجد أنه فــي لوحــاتٍ كثيرة يعمــل على تجميع الألــوان في بؤرة اللوحة، وأغلب ما في هذه البؤرة هو الإنســان أو قلقه ممّا حوله، فيرســمه عبارة عن شباكٍ مكسور، أو روحٍ منهارة، أو واقــعٍ مــأزوم.. فهــو يصنــع من اللوحــة منطقتــن مفصولتين وليســتا منفصلتين، تارة بأسلاكٍ شائكةٍ، أو خطّ من النار، أو خطّ ماء قد يتّســع ليكون غرقا، أو حروفا مبعثرة، ويترك الأعلى عبارة عــن أملٍ دائــم، يريده أن يهبط مــن الأعلى حتى لــو كان هذا الأمل مســوّرا بالموت، فهو قابــل للصراخ، وهو ما يعنــي أن الجزء الغاضب هــو الأعلى، والجزء المسـّـبب للغضب هو الجزء المكوّر في بؤرة اللوحة وهو الجزء الأسفل.. وهو ما يعني البحث عن نقطة التلاقي في عملية جمــع حاصل القصــد والتأويل فــي المعنى الفني.

كورونا واللوحات الرقمية

جعلــت كورونا الفن في حالــة صمت، رغم أن لا أحــد يصمــت مــن المبدعين، لكــن ضامد ابتكر اللوحة الرقمية، وتعمّق في اســتخدامه­ا لمواجهــة زمــن كورونــا.. اللوحــة التــي تعتمد علــى قابليةٍ تقنيــةٍ مهمةٍ، ومعرفــة ودراية، لذا فــإن التعامد ما بــن اللوحــة والتقنيات، أنتــج قصيدة لونيــة.. فالأعمال الرقميــة تتحــدّد ببراعة الفنــان، للتعامل مــع البرامج الذكية في الحواســيب لإنتاج ولادة جديدة ومبهرة. باعتبار أن الفن ليــس فقط المادة الخــام التي تســتخدم في الأعمــال الفنية، مثــل الزيت والأكرليــ­ك والأحبار الأخــرى، إن كانت زيتية أو مائيــة، وكذلــك النحت، بل ممكــن تحقيق ذلك علــى البرامج الحديثة وأهمها الفوتوشــو­ب، أو غيــره من البرامج المتطورة .وهو بذلك يواكب في عمله الآخر اللوحات الرقمية في سكب الغضــب، الذي في داخلــه والــذي لا يريده أن يهــدأ، متأثرا ربمــا بالأفلام الســينمائ­ية التي تعتمد أصلا علــى الكرافيك. والكرافيك هو خلق مادة ذات خيالٍ واســعٍ غير موجودة في

واقعنــا.. وهذه الصــور المتحرّكة تنفذ علــى برامج ذات تقنيات عالية مع حواســيب ذكيــة.. لذا هو يقول مــا الضير أن تنتقل هذه التقنيات إلــى اللوحات الثابتة، وهي ذات طابع فني لا تختلف عن اللوحة المرســومة، حسب ذكاء الفنان، بل تكون أكثر وحيا واشــتغالا، ومن يعتقد أنها لوحات سهلة وعملية تقليديــة فهو واهــم.. إذن ما الضير في تحويل هــذا العالم الرقمي إلــى لوحــات، يتم فيهــا تفريغ كم الغضــب الذي يعتري الإنســان والفنان بوجه الخصوص في الاحتجاج على الواقع المرّ.

ومــا بــن اللوحــة التشــكيلي­ة المرســومة علــى لوحــة قماش، واللوحــة التي انتجتها تقنية الحاســوب، نجــد أن الفعل الغاضب هــو المهيمــن علــى روح ضامــد.. هيمنــة اللــون المتخــم بالتوزيــع والمتداخل، حتى لكأن الألــوان ذاتها تتعارك مع بعضها، فتنتج لنا تأويلا يحاول الإمســاك بالمتلقّي، ليجعلــه قريبا منه، أو على الأقل يســمع الصراخ الغاضب على المحيط، وكأنه يحــرّض الذائقة على الخروج مــن معتقلها الصامت إلى فضــاءات الصراخ.. بل إنه يعد اللوحة الرقمية ملائمة لزمن كورونا، وإنها أكثر انتشارا مع العالم الرقمي والتواصل الاجتماعي.. واللوحة القماشية ملائمة لمعارض وربما نخب، لكــن في الاثنين ثمة روح احتجاجيــة في لوحاته لأن مثل هذه اللوحات تعد فرصة رائعة ومذهلة للفنان أن يستخدم كل التقنيات القريبة منه لإنتاج العمل الفني، وبالتالي هذه الأعمال لها وقــع كبير في نفس المتلقّي، وهــي ذات قيمة إبداعية لا تختلف عن أي عمــل فني آخر، خاصة أنــه يعتبر أنه ليس هنــاك اختلاف بين الأعمــال الفنية على وجه التحديد، إن كانت رقمية أو بمادة معرّفة. الفرق الوحيد أن الرقمية تشتغل على برامج حاسوبية لإنتاجها ثم طباعتهــا، أما مواضيعها فهي ذات المواضيــع، وتبقى قدرة الفنان للإبــداع، وتمكّنه من أدواته الحاســوبي­ة، أو تمكّنه من إنتاج العمل الفني على القماش بالزيت، أو بمادة أخرى. هي الأقرب للنفس.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom