Al-Quds Al-Arabi

القنوات التلفزيوني­ة العربية: العبرة ليست بالعدد

- رياض معسعس ٭

بــدأ البــث التلفزيونـ­ـي في البلــدان العربية بشــكل عــام خلال ســتينيات القــرن الماضــي. وكان الانتشــار مقتصــرا على بعض الشــرائح الاجتماعية المدينية، )الأرياف تأخــرت كثيرا في اقتناء أجهــزة تلفزيونيــ­ة، وكون البث لم يكن يشــكل كامل الأراضي في معظــم البلدان لافتقارهــ­ا لمحطات التقوية التي كانــت لا تزال تبث على الموجات الهرتزية الأرضية قبل انتشار القنوات الفضائية بعد اختــراع الأقمــار الاصطناعية(. وكانت جميعهــا باللونين الأبيض والأسود، قبل التوصل إلى الشاشات الملونة.

وجميع هذه القنوات كانت قنوات حكومية، ولم يكن هناك أكثر من قناة واحدة في البلد الواحد، وجميعها قنوات منوعة )ترفيهية، تثقيفية، إخبارية(. وتخضع لمراقبة شديدة من قبل أجهزة الدولة. لكنهــا ورغم ذلك اكتســبت شــعبية لا بــأس بها، وازدادت نســب مشــاهدتها داخل البلد الواحد )لم يكن بعد قــد دخلت تقنية البث الفضائي لتتمكن من البث على رقعة العالم العربي ككل(.

تمجيد القائد الملهم

لكن هذه القنوات كانت وسائل تمجيد، وتفخيم، وتعظيم القائد الملهــم الذي لا يخطــئ، ولا يرتكب تجاوزات قانونية ودســتورية، ولا عمليات فســاد فلكية، ولا يجرم بحــق مواطنيه، بل هو الزعيم العادل، الســاهر على حماية البلاد، وراحة العباد. نشــاطاته تملأ نشــرات الأخبار التــي يتصدرها دائمــا. ولا تعاني هــذه القنوات مــن أي منافســة من قنوات أخــرى لأن لا وجــود لها. غيــر أن مع تطــور تقنيــة الأقمــار الاصطناعية، وخاصــة أقمــار الاتصالات، )أقمار الاتصــالا­ت يتم وضعها على ما يســمى بالمدار الثابت على بعــد 36500 كم مــن الأرض( بات بمقدور بعض القنــوات الأوربية

والأمريكيـ­ـة البــث المباشــر علــى أكبــر رقعــة أرضية، وانتشــرت الصحــون اللاقطة وملأت أســطح المنازل )بعــض الأنظمة العربية منعت اقتناء الصحون اللاقطة خشــية مــن القنوات الأجنبية التي ربما تبث أخبارا لا تناســب هذه الأنظمة، وقد باتت العيون منصبة على قنوات إخبارية تتابع عبرها أخبار البلاد التي تغفلها القنوات الوطنيــة كمتابعة حرب الخليج الأولى مثلا عبر شاشــة الســي إن إن الأمريكيــ­ة(. إلا أن عهــد القناة الواحدة الحكوميــة انتهى )كان مجمــوع القنــوات التلفزيوني­ة حتى عــام 1990 لا يتعــدى 30 قناة وطنية في مجمل البلاد العربية(.

الهزات الثلاث

إذ جــاءت الهزة الأولى في المشــهد الإعلامــي العربي في العام 1991 ومــع نهايــة حرب الخليــج عندما بــرزت قناة الإم بي ســي كأول قنــاة عربية فضائية «خاصة» تبث على كامل التراب العربي ومقرها لندن.

لقد اســتطاعت هذه القناة وفي مدة وجيزة من الزمن أن تحقق نجاحــا منقطــع النظيــر، وخاصــة أنهــا قدمــت برامج سياســية حوارية، ونشــرات أخبار على مســتوى عال من المهنيــة والتقنية. وكذلــك الإذاعــة التي لحقــت بها )إم بــي ســي إف إم( كما قدمت برامــج ترفيهية وخاصة موســيقية جذبت الكثير من المشــاهدي­ن، وأطلقــت النجوميــة للمذيعــن والفنانــن، ثــم دخلت فــي تجربة القنوات المتخصصة في الأفلام، والدراما، والمنوعات.

وفتحت الباب واســعا أمام قنــوات أخرى متخصصة )روتانا، دريم، ارتي.. ( التي بدأت تنتشــر بســرعة كبيــرة. وقد حافظت إم بي ســي على تفردها وتألقها خلال فترة التســعيني­ات. لكن بروز قنــوات إخبارية أخــرى خطفت منهــا الأضواء ونســبة كبيرة من المشاهدين.

انطلقــت الهــزة الثانيــة فــي العــام 1996 تحديدا بإنشــاء قناة الجزيــرة القطريــة ليــس كأول قنــاة إخباريــة فضائية فحســب، بــل كأول قنــاة تنفتــح علــى المعارضــا­ت السياســية العربية في مجموعــة برامــج حوارية سياســية تجمــع الأضداد تحت شــعار الرأي والرأي الآخر، تســتضيف شــخصيات المعارضات العربية تقابلها شــخصيات أخــرى موالية للأنظمة العربيــة فحققت بذلك أول اختراق لحاجز الصمــت التي كانت تفرضه هذه الأنظمة على آراء معارضاتها، فتمت محاربة القناة من أكثر من نظام، من ناحية ثانية وفي محاولة هي الأولى في وســائل الإعــام العربية قامت الجزيــرة أيضا بالانفتاح على شــخصيات سياســية إســرائيلي­ة في حركة تطبيعية إعلامية لســبر آراء زعمــاء الكيان المحتل والتي شكلت صدمة كبيرة آنئذ للمشاهد العربي برؤية الإسرائيلي يطرح آراءه دون قيد على شاشة عربية. وتمكنت من جذب أكبر الخبرات الإعلامية العربية وصنعت منها نجوما، ونشــرات إخبارية مكثفة تعتمد على البث المباشــر ما مكنها من تحقيق أكبر نســبة مشاهدة لم تحققها أي قناة أخرى، ولا ســيما قناة أبو ظبي، وقناة العربية الإخباريتا­ن التي انطلقت الأولى منهما بعد أشهر قليلة من انطلاقة الجزيرة والثانية بعد عدة ســنوات واللتــان حققتا بدورهما أيضا نجاحا كبيرا،. قبل أن تأتي الهزة الثالثة.

جــاءت الهزة الثالثــة مع دخول الإعلام العالمــي عصر الانترنت التي قدمت للمشــاهد محــركات بحث كغوغــل، وياهو، ويوتيوب الخاص بالفيديوها­ت، وســواها، ووســائل التواصل الاجتماعي كفيســبوك، وتويتر، وانســتغرا­م.. وســواها. فحولت الأنظار عن الشاشــة الصغيرة، بل أن القنوات التلفزيوني­ة خســرت الكثير من مشــاهديها ولا ســيما الفئة العمرية الحديثة الســن والشابة التي تفضل شاشة الكومبيوتر على شاشة التلفزيون.

وتبعتهــا أجهــزة الهاتــف الذكية التــي بدورها باتت وســيلة تواصل أساسية ومشــاهدة لمئات الملايين من الناس حول العالم. حتــى أن القنــوات التلفزيوني­ة فتحــت أيضا نوافذ )تشــمل البث المباشــر ومواقــع إخبارية( لهــا على الشــبكة العنكبوتيـ­ـة لتمكن المتصفح مشاهدة برامجها على شاشة اللابتوب.

قنوات بالمئات

خلال العقــود الثلاثة الماضية دخل القطــاع الخاص في المجال الإعلامــي فارتفع عدد القنوات التلفزيوني­ــة العربية من حوالي 30 قناة إلى ما يقارب 1400 قناة فانتشرت القنوات المحلية، والقنوات المتخصصــة )رياضيــة، اقتصاديــة، إخباريــة، دينيــة، ترفيهية، درامية، موســيقية..( فهناك 170 قناة رياضية، و172 قناة درامية، و124 قنــاة غنائية، و95 قنــاة دينية، و68 قنــاة إخبارية، وقنوات محلية منوعــة ذات تغطيات محدودة جغرافيا، أو محصورة إثنيا، وعرقيا. يضاف إليها القنوات الناطقة باللغة العربية التابعة لدول أجنبيــة، فهناك قنــاة «الحرة» الأمريكيــ­ة، وقناة «روســيا اليوم» وقناة «بي بي ســي » عربي البريطانيـ­ـة، وقناة «فرانس 24 »وقناة «تي ار تي» عربي التركية. وقناة «دوتشي فيلي» الألمانية.

هــذا الكم الهائل من القنوات لا يشــكل بالضرورة إغناء إعلاميا للســاحة العربية، فمنها مــا يختفي بين ليلة وضحاهــا، ومنها ما يبــرز فجأة ثم يختفي ســريعا كما حصل في بعــض القنوات التي ظهرت سريعا بعد ثورات الربيع العربي واختفت أيضا سريعا بعد تغيير دفة الحكم. فكما نلاحظ أن القنوات الرياضية هي في طليعة القنوات تليها القنوات الدرامية ثــم الغنائية فالدينية.. وهنا تكمن أيضا معادلة الكم والكيف. فالقناة الجيدة تعتمد على ثلاث ركائز أساســية: مســاحة حرية التعبير، التقنيات العاليــة، الصحافيين ذوي الخبرات الرفيعة. بالإضافة إلى صك مفتوح على بياض.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom