Al-Quds Al-Arabi

كرامة المُسنين من كرامة الشّباب

- *كاتب فلسطيني

تعتبر طريقة التعامــل مع الفئات الضعيفة فــي المجتمع، مقياســاً لتطــوّر المجتمع ووعيه وأخلاقياته ومســتوى المعيشــة فيه. علــى رأس الفئات الضعيفة في المجتمع هم المســنون، حيث تضعف مناعتهم الجســدية، وتهاجمهم الأمراض، وتهتز ثقتهم بأنفسهم، وقد تتأثر حالتهم النفســية، ومن ثــم قدرتهم على تقييم مــا يدور من حولهم بشــكل صحيح، وقــد يصل الضعف ببعضهم إلى درجة العجز عن خدمة نفسه.

أظهــرت أزمة وبــاء كورونــا، تفاوتاً فــي التعامل مع المســنين، بين مجتمــع وآخــر، أولا من حيــث الخدمات الصحيــة والعناية الجديّة، ثــم مراعاة الجيل الشــاب والأقويــا­ء لوضع كبار الســن. في بعض بيــوت رعاية المسنين وفي دول غنية، تُرك المسنون ليواجهوا مصائرهم، هذه فضائح حدثت في إسبانيا وفي السويد وإيطاليا في مرحلة ما من انتشــار الفيروس. إلى جانب هذا، فكثير من الشبان لم يتوّخوا الحذر، حيث أنهم لم يخشوا الفيروس وتحدّوه، واعتبــروا مناعتهم كافية للمقاومة، ولم يهتموا بأنهم قد ينقلون الفيروس إلى المســنين. هذا الاســتهتا­ر اللامبالي من قبل بعض الفئات الشــابة، كان ســبباً مهماً في انتشــار كورونا. إلا أنه ومع زيادة انتشــار الفيروس وتهديده لحيوات أناس في سن الكهولة والشباب، صاروا يأخذونه بجديّة أكبر، فالخطر بات محدقاً بالجميع.

على رأس المستهترين بالضعفاء، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يتباهى في هذه الأيام أمام الأمريكيين بأنه انتصر علــى الفيروس، وما زال مصــرّا على تناول الأمر بتبسيط واســتخفاف، وفي أنانية مفرطة مستخفة بسلامة الضعفاء من المواطنين، بل إنه استثمرها سياسياً، ووجّه اتهامات للإدارات الديمقراطي­ة )الزرقاء( في بعض الولايــات، بأنها هي الســبب في ارتفاع عــدد الوفيات، نتيجة سوء في إدارة أزمة كورونا. يحمل المسنون في كل مكان، الحكمة، والتجربة، والتاريخ الشــفوي لشعوبهم، ولأحــداث كثيرة مرّت بهــا بلدانهم ومعظمهــا لم يوثّق، وأجزم بأن التاريخ الفلســطين­ي الشــفوي الذي لم ينقل بعد إلى وثائق ولم يكتب، هــو أكثر بكثير مما كُتب ووثّق حتى الآن، فلكل مســن أكثر من قصة مع بقائه، أو تشــتت أسرته، ومع الســلطات، حيثما كان، سواء في فلسطين أو خارجها، ومع التحديات الهائلة التي واجهها، كي يواصل العيش، ثم تربية الأمل في نفوس أبنائه بمستقبل أفضل، إضافة إلى هذا فهم المصدر الأول لجمع التراث، سواء كان هذا تراثاً فلســطينياً أو غيره من تراث الشــعوب، الذي يشــمل القصص المتوارثة والألعاب والعــادات والتقاليد والأناشــي­د والأطعمة والعادات الاجتماعية مثل، طقوس الأفراح والأتراح وغيرها، ولهذا فهم كنز ومنجم من واجب الجيل الشاب أن يحافظ عليه وأن يستخرجه منهم، وإذا كان جمــع التراث مهماً لكل شــعب، فلجمع تراث شــعبنا الفلســطين­ي أهمية خاصة، وكما هو معروف، فالسلطات الإســرائي­لية تعمل بصــورة منهجية علــى اختطاف هذا التراث ومصادرته، وحتى اعتباره تراثاً إسرائيلياً، مثله مثل البيوت والقرى والمدن والأرض المصادرة.

يســجل للمجتمعــا­ت العربية عموماً بأنهــا تنظر إلى المسنين نظرة احترام وتقدير، وهذا له دوافعه الاجتماعية والدينيــة، وهو جزء من الشــخصية العربية الســويّة، فالناس يقدّرون الشــاب الذي يحترم والديه الُمسِــنين، ولهم في هــذا قصص وعبر كثيرة، وغالبــاً ما تمر مرحلة الشيخوخة بصورة محترمة، أو لنقل مقبولة. وقد سمعت أكثــر من مرة مــن بعض اليهــود، أنهم يتمنــون لو أنهم يحصلون على التقدير والاحترام الذي يحظى به المسنون في المجتمع العربي.

إلا أنــه رغم التوجــه الاجتماعي الأخلاقــي والديني تجاه المســنين لدى الشــعوب العربية، فــإن دَوْر الدولة والمؤسسات الرســمية يبقى هو المعيار والأساس، وهناك إحصاءات ليست مشجّعة في تعامل معظم الدول العربية مع المسنين وتوفير ما يحتاجونه من مسكن ورعاية صحية واستيعاب للقادرين منهم في سوق العمل.

لقد قرّرت هيئــة الأمم المتحدة يوم الأول من أكتوبر من كل عام، اليوم العالمي للمسن. ومن معطيات الأمم المتحدة يتبين أن الدول الأوروبية، خصوصاً الاسكندناف­ية، تحتل المرتبات المتقدمة، في ســّلم خدمات المسنين، ومؤسف جداً أن تحتل الدول العربيــة مراتب متأخرة قياســاً بالدول الأخرى، رغــم تقاليدنا الاجتماعيـ­ـة والدينية التي تحث علــى احترام المســنين. هــذا التخلّف، له صلة مباشــرة بالأزمات التي يعانــي منها الأصحّاء والأجيال الشــابة والوضع العام، ولكنها تصل الضعفاء والمســنين بصورة أشد فظاظة، فالتعامل مع الشرائح الضعيفة لا يمكن فصله عن مستوى الحياة العام وإدارة النظام.

في البلاد التي لا تكفي الرواتب فيها لإنهاء الشهر حتى لأساتذة جامعات، وفيها الكثير من الفساد والتواطؤ معه، فلا بــد أن تكون معاناة الضعفاء والمســنين أشــدّ وطأة، وهذا يعني بأننــا إذا أردنا إصلاح حال ومكانة المســنين فــي المجتمعات العربيــة، يجب أن نصلح حال الشــباب والأطفال، ونظام الحياة بِرُمّته.

 ??  ?? سهيل كيوان*
سهيل كيوان*

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom