Al-Quds Al-Arabi

محترفات القتل: من الإرهاب العقدي إلى الإرهاب الجرثومي

- ٭ شاعر وكاتب من المغرب

تحقق كائنات الحداثة اســتمراري­تها في مراكزها العالمية الكبرى، عبر تفاعلها الدائم مــع توتراتها الداخلية، الناتجة عــن عنف الازدواجيا­ت المصطخبــة في دواخلهــا. والقول بالتفاعــل هنا، لا يحيــل بالضرورة على الجانــب الإيجابي والبناء منه، بقدر ما يتضمن الإشــارة إلى ردود أفعال، تكون على درجة كبيرة من الملحاحية، التي تســتدعي للحسم في إشكاليات، قد تتعلق بالقيم الإنسانية والحضارية، أو ببراءات ابتكارات مادية أو رمزية، من شأنها استحداث انقلابات جذرية لا متوقعة، في هذه المنظومة أو تلك.

ولعــل أهم ما تتميز بــه ردود الأفعال هذه، قابليتهــا المنقطعة النظير للانصهار الفوري واللامشــر­وط، في صلب الإشــكالي­ات المحفزة لها، من أجل التعجيل بتجديد أنســاقها وتحديثها، بصــرف النظر عما يمكن أن تؤول إليه عملية التعجيل هذه من تداعيات.

إن مبدأ التوترات الداخلية المتحكمة في حركيــة المراكز الغربية ككل، هي في الواقع التعبير الضمني عن هوس غامض بلعبة تفجير المنظومات فــي أفق البحث عن إبــدالات جديدة لها، عبر التحويل الآلي والقســري لمساراتها. ما يعني حتمية شروعها في وضع توصيفات جديدة لتوجهات العالم واختياراته، ولو كانت على حســاب تأجيج مــا يكفي من العنف المغتبط بمراكمة المزيد من ضحاياه. وطبعا ســتكون ثمة أكثر من إمكانية «موضوعيــة' لتبرير لعبة النســف، عبــر الاســتثما­ر العدواني والمبيت للأعطاب المادية والرمزية، التي تزخر بها ذاكرة الشــعوب المهمشة. وفي هذا الســياق، ســيكون للحكي أن ينكــب على حفر ما يكفــي من جداول المحن والمرارات. ذلك أن المراكز الغربية، واستنادا إلى إرثها الاستعماري الكبيــر، دأبت على تطوير علاقتها الفيتيشــي­ة بهوامــش العالم، بعد أن وجدت فيها الفضاء الملائم لتطوير كفاياتها الاســتغلا­لية، كي تأخذ شكل استثمارات «مشروعة» لا تدع للملاحظ أي مجال للتشكيك في مصداقيتها ونزاهتها. بمعنى أن المراكز ذاتها، كانت وســتظل، تدين لهذه الهوامش، بأهم ما تحققه من مكتسبات على جميع الأصعدة. اقتصادية كانت، علمية أو ثقافيــة. ما دامت تتعامــل معها بوصفها مختبــرات نموذجية، لتنفيذ منجزات، يتكامل فيها الأفق البنائي مع نقيضه التدميري.

وهذه المختبرات العملية والمســتبا­حة، مفتوحة علــى الهواء الطلق، لممارســة كل انواع التجارب المابعد علميــة والمابعد حداثية، أي تلك التي تستهدفك بالتعايش الســام والتفاهم القاتل تماما، والذي ليس لك معه سوى أن تتقبل فناءك الوشيك والمحتم، عن طيبة خاطر.

هي مختبرات تكتشــف فيها هذه المراكز، حدود قدرتها على الاستهتار بالقيم الإنسانية وبمدوناتها الحضارية، بدون أن يساورها أي إحساس بالخطر أو الندم، مادام تواجدهــا الجغرافي بعيدا عن مضاربها، يجعلها أكثر اطمئنانا علــى أمنها الذاتــي، خاصة حينما يتعلــق الأمر بمخاطر القطاع العسكري. إنها أيضا الاستوديوه­ات المفتوحة على كل الاحتمالات اللامتوقعة، كما هي التعبير الرمزي عن الرحابة المعدة بســخاء لتفجير طاقات اللاعقل واللافكر، وكل ما يندرج ضمن خانة فائض الجنون الذي تنتشــي المراكز ذاتها ليل نهــار بتصريفه. من هنا يمكــن اعتبار الهامش الحضاري ككل، فضاءهــا المثالي، الذي تتخلص فيه من ســلطة الرقابة الإقليمية والدولية، كي تســتمتع بممارســة كل أنماط الحماقات الكفيلة بتجديد دمائها الز قاء. وهي الممارســة المندرجة ضمــن ما يتعارف عليه بالفوضــى الخلاقة، المؤثرة بشــكل مباشــر في إحراق شــرنقة العقل، وإحراق شرنقة الامتثال لقوانين الصيرورة الحضارية. وكما هو واضح، فإن الفوضى التي تعنينا هنا، هي بمثابة الرحم الاستثنائي، الذي يسمح للمراكز باختلاق اســتراتيج­يات جديدة، يتم تقعيدها أولا بأول، من أجل تفريغها في قوالب تتحول تدريجيا إلى قوانين، وإلى أســس موضوعية تعتمد في توسيع مساحة نهب الهوامش وتركيعها.

وتحضرنــا هنا ظاهــرة «الإرهــاب» التي تم تصنيعها فــي قلب هذه الهوامش، باعتبارهــ­ا المنتوج الأكثر تداولا، الذي اســتفادت المراكز من مردوديته السياســية والإعلامية، لعدة عقود خلت. ما ساهم في ارتفاع أرصــدة امتيازاتها الهيمنية إلــى أبعد مدى، حيث عمت فوبياه ســوق المعاملات المركزية، إن لم نقل، إن الفوبيا أمست في حد ذاتها سوقا فعلية تعرض فيها التشــوهات السياســية والاقتصادي­ة والثقافية بضاعاتها الفاســدة. وفي اعتقادنا أن التجذر الراســخ للعنف الهيمني في مفاصل المراكز الغربية، يكشف عن حقائق جوهرية، تتخفى في تضاعيف العلاقة الملتبســة التي تربطها بهذه الهوامــش، إنه نوع من الرعــب الكامن في اللاوعي، والناتج عن الاســتعاد­ة الضمنية للعنف الاســتعما­ري، الذي كانت تمارســه المراكز على هوامشها /مســتعمرات­ها. وبتعبير آخر، إنها كوابيس الخوف من احتمــال يقظة فعل الانتقــام التاريخي. أيضا، هي الذاكرة وقد غدت مهددة بانبجــاس تفاصيل أزمنة الإهانات، تلك التي لا يمكن أبدا إغراقها في بحار النســيان الطافحــة بتموجات الحداثة. هكذا إذن أصبح الإرهاب بموجب ذلك، اللازمــة الثابتة في مختلف الأحاديث والخطابــا­ت الإعلامية الرائجــة، وبتناغم تام مع الخطابــات الموازية، الموهمة بجدوى احترام الآخــر، وتكريس فضيلة التعدد والاختلاف، بما يقتضيه ذلك من تشريعات مؤسســاتية وقانونية معترف بها عالميا. في حين، ليســت هي على مستوى الواقع ســوى مناورات تلزم الآخر، أكثر مما تلزم الداعين إليها، حيث يتم فرضها بالقوة كلما استشــعرت المراكز الكبرى ضرورة ذلك، أي بموازاة احتمــال تعرض مصالحها القومية إلى خطــر'خارجي ما. ومن المؤكد أن الإمعان في اللعب بهذه الأقنعة، لن يفلح في تبديد الكراهية الدفينة تجاه الآخر، وقد غدا شــبحه جاهزا للانفلات من حنجرة القمقم.

بهــذا المعنى، يكون الإرهــاب بمثابة الغطاء الشــرعي الذي تعتمده أجهزة الإقصــاء المركزي، في إعادة ترتيب مكونات مشــهدها. تحت ظل رؤية، تحرص على أن تكون مؤطرة ومكيفة بقناعاتها العقلانية، باعتبار أن مراعاة الجانب العقلاني، تندرج ضمن الاحترازات المؤدية إلى تفجير الجديد من الإبــدالا­ت. وبالتالي، فإن الإجــراءا­ت الجديدة المفضية إلى هندســة بوادر التحــول، تنطلق من الاشــتغال على مقالــب الخطابات الإعلامية، كخطوة أساســية، لوضــع إطار قانوني للبدائل السياســية والحضارية المقترحة.

وكما هو واضح، فنحن بصدد اســتحضار ظاهرة، هي الآن مقبلة على فقــدان الكثير من بريقها، لعلها تســعفنا في قــراءة التحولات الجذرية التي طالت المشهد الكوني حاليا، على إثر الجائحة الكوفيدية التي تتنقل بانتشــاء كبير وبحرية مطلقة، في مجموع ما تحظى به أرضنا الصغيرة من قارات. ذلك أن التوترات العنيفة المعتملة في باطن الحداثة المتوحشة، لم تعد تقنع بمحدودية أثر الفوبيا التي تغذيها ظاهرة الإرهاب، بل أمست مهووسة بإنتاج بديل أكثر تقدما وإثارة وتعميما.

إننا نشير هنا إلى تلك الأيدي الخفية، المشتغلة ليل نهار في محترفاتها السرية، الخبيرة باستشراف مستجدات علاقة الكائن بآفاقه المستقبلية. وهو بالمناسبة استشراف يتمحور أساسا حول هاجس استحداث إرهاب «وبائي» تتجاوز وحشــيته ضراوة الحروب العقدية، التي فقدت قدرتها على الإقناع جراء ما طالها من رتابة.

يتعلــق الأمر في هذا الســياق ببحث الأيــدي ذاتها، عــن أفاق أكثر ســوداوية وشراســة، تتجاوز بشــموليته­ا حــدود الاســترات­يجيات السياســية، التي دأبت على وضعها الأنظمة الغربيــة ذاتها. كما تتجاوز حدود حساباتها المؤطرة بتشريعاتها، إلى أخرى منفلتة وهلامية، بالكاد تستطيع أفلام الخيال العلمي أن تترجم ما قل من أهوالها.

وبعيدا عن الخــوض في تفاصيل المقولات والحقائق والمنظومات التي تتناســل يوميا حول هذا الإرهاب الجديد، الموغل في عدوانيته، يكفي أن نستشــهد بكرة اللهب التي ألقى بها المدير العــام لمنظمة الصحة العالمية مؤخرا، وهو يعلن لســاكنة المعمــور، بأن الجائحة الحاليــة «لن تكون الأخيرة». فهذا الإعلان الذي يبدو من حيث الظاهر، مفعما بروح الأمومة التي تسهر المنظمة من خلالها على سلامة وأمن رعاياها، ليس في الواقع، سوى نعيق غرابي، يسعى أولا وأخيرا، إلى توطين حالة أبدية من الرعب في أوصال الكون، حتى إشعار آخر.

 ??  ?? رشيد المومني٭
رشيد المومني٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom