Al-Quds Al-Arabi

المُغامرة «المستحيلة» للفن التشكيلي في الجزائر

- ٭ كاتب جزائري

تاريــخ ثقيــل عرفه الفن التشــكيلي فــي الجزائر، مــرّ بمراحل نور قبــل أن يغرق، في العقــود الأخيرة، فــي عتمــة لا يعلم أحد متــى يحق له أن يخــرج منها. تاريــخ مــن الفن يزن أكثــر من قرنين، فأول مدرســة للفنون الجميلــة ارتفعت حيطانها، في عاصمة البلد، فــي النصف الأول من القرن التاســع عشــر، تعددت مُســمياتها وتغيرت إداراتها، قبل أن تصير «المدرسة العليــا للفنون الجميلة» مرّت فيهــا أجيال من فنانين فرنســيين وأوروبيــن، وتخرج من ورشــاتها أعلام الفن في البلد، عبد الحليم حمش، بشير يلس، شكري مســلي، امحمــد إســياخم، دونــي مارتينــاز، بعزيز حمــاش، مختار جعفــر، وصولا إلى أرزقــي العربي، مصطفى بوطاجين وغيرهم.

أجيــال تلاحقــت، ولا تــزال تلــك المدرســة علــى هيئتهــا الأولــى، مصنــع فنانين، لم يخفــت حراكها، ولا تزال واحــدة من النقاط الناصعــة، يُضاف إليها التاريــخ العتيق لمتحــف الفنون الجميلــة، الذي يكاد يمرّ قــرن على فتــح أبوابــه، وقد ضمت تشــكيلاته، فــي وقت ســابق، كما ورد فــي أرشــيفه، ليس فقط أعمال محليين، بل أيضا أســماء عالمية تحسده عليها متاحــف أجنبية، دولاكــروا، ماتيس، رينــوار، بدون أن نغفــل أن معاهــد تكويــن الفنانين تناثرت شــرقا وغربــا، لم تعــد حكرا علــى منطقة دون أخــرى، ولم يعد يســتعصي على شــاب مبدع، أن يجد فرصة في الالتحاق بمؤسســة تكوينية في الفنــون، بالمقابل لم يعد يثير فضول الناس تخرج طلبة فنون كل عام، بل صار حدثا عابرا، بالكاد يشــغل الاهتمــام، لأن مصيرهم اتفق عليه الجميع، أو تقريبا، ســوف يلتحقون بجحافــل العاطلين عن العمل، إلا قلــة منهم من المحظوظين، فالفن «لا يضمن لقمة لصاحبه» الحياة في الجزائر لم تتخذ حيزا، ولو صغيرا، يركن فيه من يحمل شــهادة «فنــان» مع الوقت بات الأمر مقلقا، كيف يعيش هؤلاء الفنانون؟ من أين يكســبون قوتهم؟ هل استســلموا إلى مغامرة الفن «المستحيلة» فــي بلدهــم؟ بإمكان أي شــخص أن يكســب عيشــا كريمــا، بغض النظــر عن تخصصه أو هوياته، بإمكانــه أن يحلم أيضا، عدا الفنان التشــكيلي في الجزائر، فقد حُســم أمره وهو على علــم بذلك، لكنه

يصر على سلك طريقه. إلى متى يطول صبره؟

كي يواصل فنان تشــكيلي شغله، فلا بد له من سوق، من قوانين وتنظيمات، من زبائن، من وســطاء وسماســرة أحيانــا، وهي كلها عناصــر غائبة في الجزائر، ولن تتوفر علــى الأقل في الأمد القريب. ففي بلد متوســط الدخــل فيه لا يــزال متدنيا، يُضــاف إليه تراجع الدينار كل ســنة، هــل يعقل أن يفكــر مواطن في شــراء لوحة فنية تساوي راتبه السنوي أو يزيد؟ طبعا الإجابة ستكون بالنفي.

نشاط الفن التشكيلي يترافق طرديا مع القدرة الشرائية للفرد في البلد الذي يحيا فيه، قد يقول قائل إن هذه الفكرة ليست ـ بالضرورة ـ صائبة، فهناك بلدان تعرف أوضاعا اقتصادية واجتماعية، ليست

أفضــل من الجزائر، مع ذلك فقد أفرزت ســوقا فنية، وتنتعش فيها تجــارة الفن، فــي الغالب فــإن تلك البلدان تشــهد حركة ســياحية معقولة، فالفن التشــكيلي يســتلهم جزءا لا بأس به من مبيعاته من حركة السياح والأجانب، بينما في الجزائر تكاد السياحة أن تكون قطاعا نائما، أرقامها مخجلة مقارنة بدول الجوار، فالبلد على الرغم مما كان عليه كوجهة محببة، في عقود مضت، بات خارج اهتمامات وكالات الســفر وزبائنهــم، مــا أســس واقعا تحولت فيــه العملات الصعبــة إلــى عملات نــادرة، وألــزم الفن التشــكيلي بــأن يواصل قيلولته التي طالت، ماذا ستخســر الجزائر لو أنها استعادت حقها في تنشــيط السياحة؟ إنها تبدو من الخارج كبلد غريب، منغلق على

نفســه، غير مســتقطب للأجانــب، وهذا الوضــع لــن يضــر الفنــادق والمنتجعات وحدها، فالثقافة والفن أيضا يتضرران، بحكم أن المواطن الجزائري يتعســر عليه اقتنــاء لوحة فنية، ولــو مرة واحدة في عمره، كمــا أن الأجنبي غير متاح له أن يصل ويتجول في ســاحل البلــد أو صحرائه واقتناء ما تيســر له من لوحات، كتذكار أو من باب الإعجــاب. لقد انتبه بعض الفنانــن لهــذا التفصيــل المهــم، لذلك لم يعد مســتغربا أن نشــاهد لوحاتهم «مهربة» (بالمعنى المجازي( وتُعرض في دول الجوار، ليس لزبائن من تلك الدول، بل لســياح يقصدونها، أما من صادفه الحظ فيوصل أعماله إلى فرنســا، حيث القطاع يشهد حركية أفضل. ففي الجزائر، لن نعثر على مزاد فني، لن نقابل تلك المشــاهد التي نحسد عليهــا غيرنا، حين يتجمع هواة الفن في صــالات، قصد اقتناء عمل قديم أو حديث، كما إن الغاليريها­ت تضاءل عددها، من يُغامر اليوم بافتتــاح غاليــري في بلــد يُعادي الفن التشــكيلي؟ فــا جمهور لها سوى من فضوليين قليلي العدد، إنها تجربة محفوفة بالخسارات، لذلك فإن )غاليري) يُعد نشــازا في معمار المدينة الجزائرية، كما أن الحكومة تبدو أيضا متحفظة في هذا الموضوع، قد تُبادر إلى إنشاء مكتبــات صغيرة أو ترميم دار ســينما، لكنها قليلا ما تورط نفســها في مشروع غاليري.

لقــد عــرف الفن التشــكيلي أزمات فــي العالم، أســوأها الأزمات الاقتصاديـ­ـة، التــي تلقــي بظلالها عليــه لا محالة، لكنه ســرعان ما يســتفيق من غفوتــه، ويعود إلى وجاهتــه، كمــا أن مركزيات الفن قــد تعددت، لم تعــد فقط في باريس أو لندن، بــل أهمها في أمريكا، وكذلــك الصين باتــت مركزا فنيا أساســيا، بينما الجزائر ترتســم كاســتثناء، علــى الرغم من زخمهــا التاريخي فإنها تشــهد تصحرا فــي الحاضر، أزمتها مع الفن التشــكيلي بدأت قبــل عقود، ولا تريد أن تنتهــي، هذا الحــال يؤثر أيضا فــي نتاجات الفنانــن، ففي ظل انغلاق آفاقهم لا يشــعرون بأنهم معنيــن بالتجديد، بل يخضعون لاشتراطات وإملاءات ما تبقى لهم من زبائن، فقط ليبيعوا ما أمكنهم من لوحات، تكفيهم لمواصلة العيش، من بينهم فنانون انصرفوا إلى حــرف ومهن أخرى، وتنازلوا عن شــهاداتهم التي قضوا من أجلها سنوات في معاهد ومراكز التكوين الفنية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom