Al-Quds Al-Arabi

الكاتب وواقعه... حالات النجاة بالأدب

- ٭ كاتب سوداني

هــل يؤثر الكاتب في بيئته وواقعه، أم أنه يتأثر بهما؟ وهل من الممكن أن يحدث الشيئان معا؟ في اعتقادي هذا الســؤال تكون الإجابة عليه عبر النظر إلى الواقع وليس بالاســتنت­اج فقط، مع التشــديد على النظــر إلى الكاتب، باعتبــار أن عليه أن يكون أكثر حصافــة، ولا يفلت لجام العربة ليدعها تسير كيفما اتفق، كون العملية الإبداعية لا تعترف بالانقياد ولا بشروط المسير، وغيرها من أدوات التقييد، بل عليــه أن يصير كائنا زئبقيا، يتمدد وينكمش مــع تغيرات الجو العام، وأمزجــة الأنظمة ورجال الدين والمجتمع، الأمر ببساطة يتعلق بالنجاة، هذا المدخل المهم سيبين وجهة نظري في الإجابة على هذا السؤال.

حالة غوركي

كل المصــادر التــي اطلعت عليها، بعيدا عــن النظر إلى الواقــع المحيط بي، تصف تأثر الكاتب ببيئته أو العكس، هو انصهار غير مباشر بين الفنان والبيئة حوله، كنتيجة مباشــرة لوجوده فيها، بعض أنصار هذا الرأي يستدل بقصة أديب روسيا المعروف مكسيم غوركي، الذي وجد نفسه في وســط قاده إلى طريق جديد، خاصة صداقته بســتالين، ودفاعــه عن سياســاته، وحشــده مــن أجله الأدبــاء ليهبه دعما إعلاميا وأدبيا مطلقا، وبهذا فإن هذا الرأي لا يعــول على حصافة الكاتب كثيرا، بل بالنســبة لــه أن تصرف غوركي ما هو إلا تأثر بالبيئة السياســية، وهذا تصور يمكن قبوله عند الدخول في تفاصيل طفولة غوركــي الفقيــرة، فالطفل دائما ابــن البيئة التي ينشــأ فيهــا، لأن عقلــه أضعف من بيئتــه، عكس الفنــان الذي قضى حياته يفكر ويتعلم، ينغمس في تجارب الشعوب والأشــخاص، يســتخلص أفــكاره المخالفــة لكثيــر من الســائد في وقت وجيز. غوركي فنــان ذكي، يعرف من أيــن تؤكل كتــف الدولة، وبطريقة ما اســتطاع أن يولف بين مبادئــه ومبادئ الدولة، وليس كمــا يقول أصحاب الــرأي المذكور، إن غوركي اندمج مع البيئة حوله منقادا، بالعكس في نظــري غوركي هو الــذي كان يقود العجلة فــي علاقته بســتالين، وتغيــر موقفه فــي أي لحظة من لحظات حياته هذه، سيكون نتيجة لرؤية تتجاوز تفكير الآخرين الذين يقصد التعامل معهم.

ما يمكــن قوله إن معانــاة غوركي فــي حياته الأولى، أيــام الطفولة، اســتطاع بحصافته أن يحولهــا إلى أدب مكتوب، يحكي فيها شــجونه وأشــواقه، أما عن حياته كمكســيم غوركي، فهذه كان له فيها رأي آخر، ســيطول الحديــث عن الأمر هنــا، كون غوركي مــن المتقدمين، ولا نملك مساحة كافية لنحلل حياته أكثر مما قلنا.

حالة صديقي

ولنضــرب مثالا حاضــرا أمامنا، فــإن الروائي محمد الطيــب، كان قد كتب رواية أفنى فيها وقتا مقدرا، وضع فيها رأيه الخاص في السياســة والثقافة والفن والدين، كان يعــده عملا قــد يضعه فــي الطريق الصحيــح، لكن الناشــر صدمه بالحقيقة، لا نســتطيع نشــر هذا العمل،

لأنــه ســيتعرض للحظــر والمصــادر­ة وسنخســر. هكذا ببســاطة تبــدد حلم صديقي إلــى الأبد، لاحقــا لجأ إلى حصافتــه الخاصة، تقمص الشــخصية الغوركية وأكل مــن الكتــف كمــا يجـــــب، وكتب ما اســتطاع نشــــــره بســهولة، بــدون أي ملاحظــات، أفــاد بأن تلــك خطوة أولى، لاحقا عندما تنغرز جذوره عميــــقا داخل الأرض، سيكتب ما يشاء، لكن أظــــــل أقول إن غوركي داخــــله لن يخــــــمد أبدا، بــل إنه تأخــر كثيرا في الإعــــان عن نفســه داخل عقل الروائي، وهو من القلة التي شذت عن القاعدة كونه فنانا.

حالة دوستويفسكي

وبافتراض أن الكاتب بطبيعته المفكرة متجاوزا، فإنه يتماشــى مــع البيئة من حولــه، ويندمج فيهــا بما يخدم مشــروعه الفني، فإنه بذلــك يصبح فاعلا تجــاه بيئته، أي أنه ســيؤثر فيهــا، وهنا تماما أتفق مــع الرأي القائل بذلك ومع الأمثلة التي يطرحها، قضية الأديب الروســي دوستويفســ­كي كمثــال، نجــد أنــه مــن خــال رائعته «مذكــرات مــن بيت الأمــوات» حيــث كان لهــذه الرواية أثر بليــغ على البيئة السياســية في روســيا، ففي 1862 بعد أن نُشــرت الفصول الأولى من الرواية، التي تصف العقوبات القاســية التي كانــــــت تفرض على المعتقلين، شــكّل الإمبراطور الروســي لجنة خاصــة لمعاينة الأمر، وبالفعل فــي عــام 1863 تم إلغاء هــذه العقوبات، وهذا أثر دوستويفســ­كي الواضح على بيئتــه، يتبعه في ذلك الكثيــر من الأدبــاء والفنانين، يمكن لقائــل من أصحاب الــرأي الأول الادعــاء بــأن البيئــة في روســيا أثرت في دوستويفســ­كي وأرغمتــه علــى كتابــة الروايــة، فــي الحقيقــة هــذا لا يصــب فــي مصلحة مــا اتجهــوا إليه، بــل يمكن القــول إنه جزء مــن حصافة الكاتب، فنشــره للرواية لم يكن ليســبب لــه الأذى، بل إنــه كان يدري أن صوتــه ســيصل، بالتالي لــم يكن فــي حاجــة لنيل ود الإمبراطور، إنما توجيهه. الكاتــب يطوع بأدواته الواقع بــدون أن يطوعه الواقــع، فالألم والأمل الــذي نقرأه في كتابات المبدعــن، ليس تأثرا بالبيئة، بقــدر ما هو قراءة صحيحة لها وجانب مما عاشــه في طفولته الهشة، كما قلنا ســابقا، وأخذ المكونــات التي تخدم مــا يريد قوله، فالمكونات البعيدة لن يســتطيع الوصول إليها بسهولة، ويتمثــل بعدها في كونها ثقافة غريبــة لم يقرأ عنها بعد ولم يطلع على حيثياتها ومساراتها.

عموما مهما اختلفــت الأقوال والنظريات، يظل الأدب وســيلة مهمــة لتحريك الأفكار إلــى الأمــام، ونقلها عبر الأجيال، فهي تســتهدف أهم فئات المجتمــع، الفئة التي تفتح الكتب وتقرأ، الفئة التي تصنع الرأي العام، وتقود شــعوبها نحو التغيير والثورة، لذلك للأدب علاقة وثيقة بالواقع، ويظل الأمر في كيفية تعبيره عن الواقع متروكا للمؤلف وأدواتها التي اختارها بعناية. وسنتفق جميعا علــى أن الأدب يفتح مســارات عديــدة للتفكيــر بدلا عن المسار الموروث، وهذا هو المهم.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom