Al-Quds Al-Arabi

على قد الليل ما يطول

-

الحديث الدائــر هذه الأيام عــن التطبيع مع العدو الصهيوني يذكرني بشيء لا يخطر على بال أحد، حتى أني كثيرا ما أضحك. لقد علقت هنا في مقال سابق على أن الأمر سينتهي بفيلم مثل «السفارة في العمارة» لأن إسرائيل لا تريد شعوبا، بل حكومات، وستظل تتوسع في أراضي الشعوب.

أتذكر شابا مجهولا وســيد درويش الذي لا يحتاج إلى شــهادة من أحد على دوره في تطوير الموســيقى العربية، من مجرد الطرب الأحادي الصوت، إلى الدراما والمسرح، وتعدد الأصوات الغنائية والبوليفون­ية، أو الانسجام بينها، والأمر نفســه بين الآلات الموسيقية، ولا يحتــاج إلى شــهادة من أحد علــى دوره في جعل الأغاني الوطنية تُغنى في الطرقات والجلســات، رغم أنه لم تكن هناك إذاعة ذلك الوقت، لكن كانت شــركات اسطوانات ومسرحا لا يدخله إلا هواة المسرح.

كثيــرة هي الأغانــي التي يمكن أن تتذكرها لســيد درويــش، أو غيره مــن المطربــن الذيــن عملوا في مسرحياته، وحتى الآن فاعظم المطربين العرب يحبون كثيرا أن يغنوا له شــيئا من أغانيه، وتتوالى الأجيال التي تحب أن تردد بعض أغاني ســيد درويش، حتى المطرب الشاب المثقف محمد محسن. من بين أغاني سيد درويش تهلّ عليّ كثيرا أغنية «على قد الليل ما يطول.» الســبب ليس فقط جمال الأغنية وجرأتها، لكن السبب وستضحكون هو التطبيع، وذلك الشاب المجهول الذي للأسف نسيت اسمه.

يوما ما في يناير/كانون الثاني عام 1985 تم القبض على عــدد كبير مــن الكتّاب كنت بينهــم، قبل معرض القاهــرة الدولي للكتاب، وكان الســبب هو مقاطعتنا للتطبيع ولحضور إسرائيل لمعرض الكتاب. بالمناسبة كانت هذه آخر سنة تحضر فيها إســرائيل التي بدأت المشــاركة في المعرض منذ عــام 1981. كانت المقاطعة كبيرة بــن المثقفين والنقابات المهنيــة وغيرها وأيضا وجــود لجنة جبهوية في حزب التجمع، تســمى لجنة الدفــاع عن الثقافــة الوطنية، أذكر من بــن أعضائها فريدة النقاس ولطيفة الزيات وصلاح عيسى ورضوى عاشور وأمينة رشــيد وسيد البحراوي وعواطف عبد الرحمن والسيناريس­ت جلال الغزالي وفتحية العسال وســليمان فياض، وغيرهم الكثير. عرفت الســجون بعضهم في تلك الســنين بسبب مقاطعة إسرائيل. كنت من بين المقبوض عليهم في تلك الســنة. الوقت لم يطل بنا ولم تكن هناك قســوة من أي نــوع في الحبس، إلا منــع الصحف عنا، لكننا كنا نصل إليها من المســاجين الجنائيين نظير الســجائر التي كانــت متوفرة لدينا، خاصة بعد أن بدأت الزيــارات. بعضنا أفرج عنه بعد يومين بمجرد عرضــه على النيابة، وانا أفرج عني بعد عشــرين يوما، والجميع أفرج عنهم بعد شــهر، ومن المحكمة مباشــرة بحكم القاضي. كان بيننا ضحك كثير رغم العزلة، لكنني أتذكر الآن ذلك الشاب الجميل الذي نسيت اســمه للأســف، وكان من حي السيدة زينب. كثيرا ما كنت أراه منفردا بنفســه ممــددا على المرتبة، التــي لا يزيد ارتفاعها عن خمســة ســنتيمترا­ت فوق الأرض يردد هــذه الأغنية «على قد الليــل ما يطول.» لم يكن يطيــل فيها فكان يكتفي بمقطــع واحد منها ثم يعــود إليه. كنت أنا أكثر من يســهر، وهــذه عادة في حياتي، حتى بعد أن تنتهي سهراتنا معا، التي نناقش فيها كتبا وأفكارا. وجدت أيضا أن هذا الشــاب الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين لا ينام ويردد هذه الأغنية لا يســمعها أحد غيره. كان يرددها لنفسه، ولا أعلق حتى يســتمر في الغناء، لأني أعــرف أنه ذاهل عني. كان خفيف الدم جدا، حتى أنه كان دائما يتابعنا ونحن نلعب الشطرنح، أنا والشاعر محمد سليمان، أو الشــاعر أحمد طه فطلب منا أن يلعب مثلنا، فتركت له الــدور بعد أن صففت رقعة الشــطرنج بقطعها فجلس أمام الشــاعر محمد ســليمان لا ينقل أي قطعة واضعا يده على خده. ننتظــر أن ينقل أي قطعة فلا يفعل، ولما ســألناه لماذا لا تنقل أي قطعة وتبــدأ اللعب، قال أنا لا أعرف اللعــب، لكني أريد أن أبدو مفكــرا مثلكم وانتم تلعبــون. أضحكنا ضحكا لا ينســى. كان يردد وحده ذاهلا عني أنا السهران هذا المطلع من الأغنية ولا يزيد وإن أعاده أكثر من مرة. «على قَدّ الليل ما يطول مسترضي بسهري ونوحي في حُبِّك يا اللي أول مشوفك تترد روحي

سنين وأيام دايب فيكي بزمارتي أصحيكي طول ما أنا وانتي في الدنيا دي.. أفوت أهلي وأجدادي أروح على فين وانتي قُصادي آه يا ترى يا ربي دا هو ولا لأ... حبوبي يا عين الحبوب من جوه يا سبب وعدي ومكتوبي. الأغنية من أغاني مســرحية «العشرة الطيبة» التي كتبها محمد تيمور، وكتب أغانيها بديع خيري، ولحَّنها سيد درويش. أغنية غناها الكثيرون منذ سيد درويش وحياة صبري، ثم إبراهيم حمودة وشهرزاد، ثم كارم محمود ثم ســيد مكاوي وإســعاد يونس. ورغم أنها أغنية عن انتظار الحبيب، وفيهــا عبارات تم تغييرها في ما بعد مثل «شِــفِّتي بتاكلني أنا في عرضك.. خليها تسلم على خدك» التي صارت «مهجتي فى إديكي أنا في عرضك.. خليها يا روحــى أمانة عندك». وغيرها إلا أن ذلك الشاب كما قلت لم يكن يكمل الأغنية ويتوقف عند هذا الجزء الأول. ذلك الشــاب الذي لا أذكر اسمه ولم أره أبدا بعد ذلك، والذي كان يكتفي بالمقطع الأول، كان يخاطب الوطن والليل حولنا لا ينتهي. تجعلني ذكرى هذا الشــاب أتذكر الأغنية بكلماتهــا القديمة، فلم يكن هناك معنى أبدا لتغيير الكلمــات؛ لأنها كانت في نص مسرحي عابر للزمن وهو «العشرة الطيبة». - على قد الليل ما يطول مسترضي بسهري ونوحي في حبك يا اللي من أول ما أشوفك تترد روحي سنين وأيام هايم فيكي بزمارتي أصحيكي طول ما أنا وانتي في الدنيا دي أفوت أهلي وأجدادي أروح على فين وانتي قصادي - آه.. يا ترى يا ربي دا هو ولَّا لأ... حبوبي؟ - يا عين الحبوب من جوه يا سبب وعدي ومكتوبي - يا كتاكيتها - يا ننوسه - يا قطاقيطها - يا حنتوسه - أنا م النجمة في استنظارك - آديني نازلة - أما نهارك أبيض من طبق القشطة - إوعى يكون حد شايف طيفي - حطي في بطنك بطيخة صيفي شفِّتي بتاكلني أنا في عرضك خليها تسلم على خدك - يوه.. يا دين النبي تنَّك سايح ما شبعتش من ليلة امبارح - ما تفكرنيش.. أما دي حقا كانت ليلة في غاية الرقة - فاكر وانا حاطة إيديّه في بطاطك قِبلي الترعة على غفلة ملت عليك ماقدرتش أقولك إوعى - قمت أنا بصيت يمين وشمال ساعة ما لقيت مفيش عُذَّال طبل طبلي كدا كدا كدا كدا وزمر زمري كدا كدا كدا كدا وشقلي بقلي وعنها ودُغري خدت لي بوسة لكن صنعة - من يومها عرفت في الآخر إنك مستعبط ساهي إيش قُلت المثل الساير يا ما تحت الساهي دواهي - آه.. عليها عيون ما تلتقهاش على بني آدمين ياكدا يا بلاش؟ - عليه مناخير فَشَر النبقة - أما نهودها فوق عن وقة.. دا أنا متبرجل يا حدُقَّة يا كتاكيتها - يا ننوسها الأغنية التي أضحك وأنا أستعيدها كاملة وأسمعها وأتخيل مســتقبل التطبيــع الذي لن يزيــد عن فيلم «الســفارة في العمارة» رغم ما سيدفعه الكثيرون من ثمن.

«ملحوظة: الأغنية لأنهــا دويتو بين اثنين؛ وضعت علامة )-( أمــام كل مقطع يقوله المطــرب أو المطربة، وهي تبدأ طبعا بالمطرب».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom