Al-Quds Al-Arabi

تَـسَـيُّـد الدُّولار... الجذور والآثار العميقة

- رائد دحبور٭

كانت قصَّة تســيُّد الــدولار قد بدأت مــع إزاحة الجنيه الإســترلي­ني عن عَرْشِــهِ القائم والَمعقود علــى أعمدةٍ من الهيمنــة التقليديَّة فــوق جغرافيا العالم على أســاس ما عُرِفَ بقاعدة الذَّهب، وقد بدأ ســياق إزاحة الإســترلي­ني عن عرشــه منهجيَّا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ فمع نهايات القرن التاسع عشــر تراجعت بريطانيا عن كونِها ورشَة العالَم الصناعيَّة؛ وذلك مع دخول الولايات المتحدة كمنافس في مجــال الصناعات التحويليَّــة وكذلك فعلت ألمانيا على سبيل المثال.

فــي ذلك العهــد، وما ســبقه، كان رأس المــال وبحكم طبيعتــه الأصالانيَّة يميــل إلى عبور الحــدود وتخطِّيها؛ وحسب القول الشــهير لروزا لوكســمبور­غ: فإنَّ النظام الرَّأسمالي كان يحتاج دائما إلى أراضٍ جديدة يغزوها كي يســتمر في الحياة. وقد شهد فترة نمو مُضَّطردة في القرن التاسع عشــر عندما كانت بريطانيا الورشة العالمية التي تتحكم بالبحار، وبرغم ما تعرض له رأس المال البريطاني من هزَّات إلَّا أنَّ ســيطرة الجنيه الإسترليني دوليا انتهت في عام 1914 مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

قاعدة الذهب

ففي السبعينيات من القرن التاسع عشر انتشرت قاعدة الذهــب ‪Gold Standard(‬ :) وهو نظــام يجري بموجبه تقييــم العملة بما يُوازيها من كميــة الذهب، وبموجب هذا النظام يجــري تحويل العملــة إلى ذهب حســب قيمتها الإســمية؛ ويقضي أيضا بحرية استيراد وتصدير الذهب، وتوفير ما يكفي من احتياطي الذهب لتلبية الطلب.

وحســب ما يقوله الصحافي التقدمي الأمريكي دانييل سينجر في كتابه «الصراع في العالم في الألفيَّة الجديدة» ذلك الكتاب الُمســتند إلــى معلومات موســوعيَّة والُمفعَم

باستخدام أدوات التحليل الدَّقيق لأزمة النظام الرأسمالي:

« هــذه القاعدة ـ أيْ قاعــدة الذَّهــب - كانت تحبذها بريطانيا منذ الحروب النابليوني­ة، في العالم الرأســمال­ي بأســره، وكانت بريطانيــا تتمتع في حينــه بأعلى دخل للفــرد، وتبلغ نســبة تجارتها الخارجية 24 فــي المئة من مجموع التجارة العالمية، أما نسبة الاستثمارا­ت الخارجية فقد كانت أعلى بكثير. لكن فترة ســلطتها وأمجادها كانت قد أخذت في الانحطاط النسبي وفي نهاية الثمانينيا­ت من القرن التاسع عشر لحقت الولايات المتحدة ببريطانيا كبلد الصناعات التحويلية الأساســي، ولم تكــن ألمانيا بعيدة عنهما. وقد شــهد في الواقع الربع الأخيــر من ذلك القرن ركودا اقتصاديا وتزاحما على أسواق المستعمرات، وبداية منافسة احتكارية بين الدول الرأسمالية.

ولكن من الممكن أيضا لنظام نقدي أن يعمل لبعض الوقت بما يمليه الــرد الانفعالي المقيد. لقد ظلت لندن لســنوات عديدة مركز المــال الدولي، كما أن نحــو 60٪ من تجارة العالم كانت تتم بالجنيه الاسترليني، بالإضافة إلى أن أي تغيرات في سعر الخصم في بنوك لندن كان يتردد صداها في العواصم المالية الرئيسية وتثير هزات في جميع أرجاء المعمورة.. وليــس ثمة عجب في أن يصــف ـ الاقتصادي الشــهير جون ماينارد كينز - بنك إنكلترا في تلك الحقبة أنه قائد الأوركســت­را الدولية. لكن تلك الأوركسترا كانت قد أصبحت حين ذاك فِرقة متنافرة وناشــزة تعزف ألحانا وموســيقى تليق بالجنازة الوشــيكة الحدوث. ففي عام 1914 حاصــرت حرب رهيبة الهيمنــة البريطانية وقاعدة الذهب وكل شيء .«

لكن البداية المنهجية ومن ثــم الفعليَّة التي جرى وفقها تنصيب الــدُّولار كمعيارٍ لتحديد ســعر صــرف العملات العالمية ومُتوَّجَا بلا مُنازع خارج مــا عُرِف بقاعدة الذَّهب ســابقا؛ كانت مع بدء العمل بنظــام «بريتون وودز» وهو نظام مالي ونقدي عالمي أُســس قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بهدف تنظيم السياسات المالية والاقتصاديَّة للدول الرأســمال­يَّة في فترة ما بعد الحرب. وقــد كان هذا النظام نتاجا لمؤتمر عالمــي عُقِدَ في بريتــون وودز في ولاية نيو هامشــيَر في الولايات المتحدة الأمريكية في شــهر تموز/ يوليو عام 1944. أســفَرَ مؤتمر بريتون وودز عن اتفاقٍ من أهم نقاطه: إنَّ كافة العملات تصبــح قابلة للتحويل دون قيود. تشــجيع التجارة متعددة الأطراف ـ بما كان يعني مُقَدِّمَة لتراجع أثر الُمضاربة وتأثير الحدود القوميَّة الُمقيِّدان ســابقا لفرص التنافس التجاري على أســاس حر ودون قيود ورقابة صارمة من الدولة الوطنيَّة، وقد كان هذا أحد سياقات العولمة فيما بعد والتي بدأت مع عقد السبعينيَّات من القرن الماضي - وقد تضمن الاتفاق أيضا تثبيت ســعر صرف العمــات المختلفة. كما أســفر المؤتمر عن إنشــاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشــاء والتنمية. وقــد كانت اتفاقيــة بريتون وودز نتيجة حل وســط بين مشروعين مُقترحين على المؤتملر أحدهما بريطاني والآخر امريكــي؛ وقد أصبــح الــدولار نتيجة للاتفاقيــ­ة العملة الأساســية في العالم؛ مما عزز من فُرص الولايات المتحدة في الهيمنة على اقتصادات العالم.

الهيمنة الاقتصادية

يشــرح «جــون بيركنــز» جزءا مــن ســياق الهيمنة الاقتصاديـ­ـة وأدواتِها، وبيركنز هو أحد أهم مستشــاري شــركة «مــن» للدراســات والاستشــا­رات الاقتصاديَّة الأمريكيــ­ة العابــرة للقــارَّات والقوميَّــات؛ والتي كانت قائمة حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ والمســؤول­ة حسب ما يُصرِّح بيركنز عن إغراق عشرات الدول الفقيرة بالدُّيون؛ وذلك عبر تقديم شــركته لمشــورات اقتصادية مخادعــة تتصل ظاهريــا ببرامج الإنمــاء وتطوير البُنى التحتية؛ بما يــؤدِّي الى إغراق هذه الــدول والمجتمعات بالديون؛ وإنشــاء فئة وطبقة مــن الانتهازيي­ن والنَّاهبين للثروة على هامش مجتمعاتٍ يتم إغراق أغلبيَّتها الساحقة

بالفقر؛ وجــون بيركنز هو أحد أهم مستشــاري شــركة «ســتون آند وِبِسْــتَر» الدَّولية للهندســة والإنشاءَات؛ ورئيس شركة «أنظمة الطَّاقة المستقلَّة» إبَّان الثمانينات.

فقد كتب في كتابه الشــهير «ضمير قاتل اقتصادي» في الفصل الخامس والثلاثين، ما يلي:

«تعتمد الولايــات المتحدة الأمريكيَّــة كثيرا على كون الــدولار العملة العالمية القياســية، وإنَّ للولايات المتحدة الحق فــي طباعة هذه الــدولارا­ت. وهكــذا نمنح قروضا لدولٍ مثل «الإكوادور» ونحن نعلم تماما أنَّها لن تســتطيع ســدادها؛ بل الحقيقة أننا لا نريدها أن تحترم ديونها، لأن التخلف عن الدفع هــو ما يمنحنا الســطوة ـ حصتنا من اللحم . في الظروف العاديــة، نحمل على عاتقنا مخاطرة تبديد اموالنا لاحقا؛ ذلــك أنه ليس ثمة من دائنٍ قادرٌ على تحمل قروض مســتعصية أكثر مما يجــب. بيد إنَّ ظروفنا ليســت عادية فالولايات المتحدة تطبع عملة لا تستند إلى الذهب. بل إنها لا تســتند إلى أي شيءٍ ســوى ثقة عالمية عامــة باقتصادنا و قدرتنــا على تحريك قــوات و موارد الإمبراطور­ية التي أوجدناها لتدعمنا.

تعطينا قدرتنا على طبع العملــة قوة هائلة؛ فهي تعني من ضمن أشــياء أخرى، أننا نســتطيع الاستمرار في منح قروضٍ لا يمكن ســدادها ـ وأننا نســتطيع نحن أن نراكم ديونا ضخمة. ففي بداية العام 2003، تجاوز دين الولايات المتحدة القومي رقما مذهلا بلغ ستة تريليونات دولار ـ أي حوالي 24 ألــف دولار على كل مواطن أمريكي، والكثير من هذا الدين يعود إلى دول آسيوية، خاصة اليابان و الصين، اللتين تشتريان سندات الخزينة الأمريكية بالمال المتراكم؛ وذلك من بيعها للولايات المتحدة وللسوق العالمية بضائع استهلاكية ـ منها الإلكتروني­ات، والحواسيب، والسيارات، والادوات، والملابس .

ما دام العالم يقبل بالدولار عملة قياسية له؛ فلن يشكل هذا الدين المفرط عقبة جدية لســلطة الشركات. بيد أنه إنْ جاءت عملة أخــرى لتحل محل الــدولار أو إن قرر بعض دائني الولايات المتحدة كاليابان والصين مثلا أن يســترد ديونه؛ فســوف يتغير الوضع بشكل عنيف؛ عندها ستجد الولايات المتحدة نفســها فجأة في وضع خطير(. الى هنا كلام «جون بيركنز .»

ربَّما ما لم يقُلْهُ جون بيركنــز صراحة في هذه الفقرات لكنَّه يُشــير إليه في فصولٍ أخرى من كتابه، وإنْ بشــكلٍ مُقتَضَب: هو أنَّ تسيُّد وســطوة الدُّولار ينبُعانِ من الحق في طباعتة دون ضوابط، وفرضه كعملة قياسية أساسية بلا مُنازع علــى العالم؛ وهذا الحق توفــره أيضا عضلات الولايات المتحدة العسكريَّة؛ وهذه العضلات منشؤها ومن يُغذِّيها في الحقيقة هو ذات المجمَّع الصناعي الهائل المملوك للشــركات الرأســمال­ية؛ فالمجمَّع الصناعي العسكري، هو جزء أساسي من حركة الاقتصاد الرأســمال­ي الامبريالي. وهو يتكامل ضمن الــدورة الاقتصادية مع الوظائف التي تؤدِّيها مؤسســات الإقــراض الدولي؛ وشــركات النفط متعددة الجنســيات؛ وتحديدا تلك التــي تمتلك الولايات المتحدة منها حصة الأســد. فجزء من عملية إغراق الدول بالديون تتعلَّق بصفقات الســاح هائلة القيمة؛ وصفقات الســاح هذه تأتي في ســياق إثارة التوتــرات الإقليمية والمحليَّــة؛ وفي ســياقِ تهديــد حلفاء الولايــات المتحدة بحلفائها الآخرين ضمن بيئة الولاء للسياسات الأمريكية؛ وضمــن بيئة دعم أنظمــة الحكم الموالية لهــا في مواجهة ومنافسة الأنظمة الأخرى؛ سواء المعادية لها أو الموالية.

بالإجمال؛ فإنَّ هــذه الإمبراطور­يَّــة العالمية المدعومة بقوَّة الدولار وإلى طباعته بغير حســاب؛ والُمستَندة إلى الخديعة وإلى منطق الهيمنة وإلى العضلات العســكريَّة؛ هي للأسف من ما زال يحدد مســارات وسياقات الأحداث العالمية؛ وهي من ما زال يمســك بقــرارات مصيرية تتعلَّق بتفاصيل حياة الشــعوب المغلوبة علــى أمرها؛ وهي التي ترسم حدود ومعالم كثيرا من الظواهر الجيوسياسي­ة عبر منطقتنا والعالم. ٭ كاتب فلسطيني

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom