Al-Quds Al-Arabi

دفاعا عن تاريخ مصر

- *كاتب مصري

بدا مشــهد رئيس الــوزراء المصري الدكتور مصطفي مدبولي مثيرا للشفقة، وهو يصور نفســه محاضــرا في «ندوة تثقيفية» رســمية عن تاريخ مصر، وعن مئة وخمســن سنة مضت، سرعان ما اختزلها إلى مئة وعشرين سنة، قسّمها على نحو عظيم العشــوائي­ة، من 1900 ميلاديــة حتى عام 1950، ومــن بعدها حتى الســاعة، ومن دون مبرر علمي ولا شــبه علمي، فألف باء فهم التاريخ، أن تبدأ وتنهي الحقب بحوادث فاصلة، لا بأرقام مئوية ولا نصف مئوية.

والدكتور مدبولي خبير تخطيط عمراني مرموق، وقد يقول كلاما يســتمع إليه، إذا تحدث عن الطرق والجسور وهندسة المدن، لكن لم يعرف عنه أي نشاط سياسي أو ثقافي، ومن هنا كان غريبا، أن يتصدى لقــراءة التاريخ، في بلد يزخر بمئات المؤرخين الكبار، وكان يمكن استضافة مؤرخ لأداء المحاضرة، بدلا من توريط الرجــل في ما لا يحســنه، وبصور وبيانات غالبها مزورة، زودته بها ســكرتاريت­ه البدائية، التى لم تجد مرجعا في تاريخ مصر عبر القرن العشــرين، سوى أراجيف وترهات وتهيؤات منام على صفحة «فيسبوك» هزلية، يرعاها بعض من يعرفون مصريا بصفة «شماشــرجية الملك فاروق»، وصلت بهم الجرأة لأخذ صورة لفاروق مع بطانته الأجنبية، وتعريفها على أنهــا لقاء لنائب الرئيــس الأمريكي مع الملك، وأن موضوعها كان ويا للعجب، رجاء من واشــنطن، بطلب من مصر أن تعطي قروضا لدول أوروبا المفلســة، والتعريف عبثي تماما، فلم يحدث أبدا أن توجه نائب رئيس أمريكي إلى مصر الملكية، ناهيك من مســخرة أن تطلــب أمريكا معونة من مصر، وقد كان لدى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، نصف اقتصاد الدنيا كلها، وقد بدا مثيرا للذهول، أن يستخدم رئيس الوزراء الصورة بتعريفهــا المزيف، ويعرضها على الحضور، كوثيقــة تاريخية دامغة، ولولا أن المســتمعي­ن كانوا يرتدون كمامات الوجوه، لــزوم الاحتراز في زمن كورونا، ربما لرأينا ابتساماتهم الساخرة من خفة الاستهانة بعقولهم.

ما علينا، فقد استطرد مدبولي في غيه، وكاد ينافس سميه الممثل الكوميدي الراحل الشــهير عبد المنعــم مدبولي، الذى وصفه نقاده بمؤسس مدرسة «المدبوليزم»، أي الضحك لمجرد الضحــك، وزاد الدكتــور مدبولي من عنــده، وواصل الكلام لمجرد الكلام والسلام، واندفع في وصلة غرام مشبوب بمصر الملكية، وذكر واقعة شبه صحيحة، تفيد بأن «القاهرة» جرى اختيارهــا كأجمل مدن العالم عــام 1925، والدقيق أنه جرى اختيار «القاهرة» وقتها كأجمل مدن منطقة البحر المتوســط، وليس العالم كله كما قال، و»القاهرة» المقصودة هي «القاهرة الخديوية» المصممة على الطراز الأوروبي، أو ما يعرف اليوم بمنطقة وســط البلد من حول «ميدان التحريــر»، الذي كان يحمل اسم ميدان «الإســماعي­لية» قبل ثورة 23 يوليو 1952، لكن الدكتور مدبولي لا يذكر من ســيرة الخديوي إســماعيل شــيئا آخر، لا يذكــر ـ مثلا ـ أنه أوقع مصر فــي خطايا تراكم الديون، ما كان ســببا في بيع مصر نصيبها في شــركة قناة الســويس العالمية للبريطانيي­ن بتراب الفلوس، وفي احتلال مصر بكاملها عام 1882، وهو الاحتلال الذى ظل قائما، وبصور مختلفة، حتى جلاء البريطانيـ­ـن عن مصر عام 1954، ودحر بريطانيا «العظمى» مع فرنســا وإسرائيل في حرب العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956.

ولا يذكر مدبولــي حرفا عن احتلال مصــر الذي كان، ولا عن متعة المندوب الســامي البريطاني السير مايلز لامبسون بإذلال فاروق في ليلة 4 فبراير 1942، وكان ينعته دائما بالولد لا بالملــك، وأرغمه على تعيــن رئيــس وزراء أراده الإنكليز وقتها، وخضع فــاروق صاغرا مخافة العــزل، وكانت حريم القصر الملكي تفر ليلتها كأســراب الدجاج المذعور، كما يقول لامبسون ساخرا في مذكراته. ويدعي مدبولي أن مصر الملكية كانت بعيدة عن كل الحروب والأوبئــة التي اجتاحت العالم حتى ســنة 1950، من دون أن يتذكر حــرب 1948 ولا الحقيقة التي سبقتها، وهي أن مصر لم تكن صاحبة قرارها، وأنه جرى توريطها، رغم أنفها، فــي الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن مئــات الآلاف من المصريين ماتوا بالســخرة وقت فرض بريطانيا لحمايتها على مصر منذ عام 1914، وأن موارد مصر ومنشآتها كلها جرى استنزافها في خدمة الجيوش البريطانية وقت الحرب العالمية الثانية، وهو ما يصفه بعض البلهاء بأنه كان دليلا على قوة اقتصاد مصر، وأنها كانت دائنة لبريطانيا، مــع أن النهب جــرى بالإجبــار وبقوة الســاح والاحتلال، ومقابل «صكوك إسترلينية» ورقية، لم تسترد حكومات العار الملكي ســوى عشــر قيمتها، أضف إلى ذلك تخاريف أخرى، بينها القوة الجبارة للجنيه المصري وقتها، مع أن مصر الملكية أجبرت على تخفيض قيمة عملتها بنســبة الثلث زمن الكساد العظيم، وكانت ثــروة مصر محتجزة في يــد المحتلين، وفي جيوب طبقة النصف في المئة الطافية على السطح، والجاليات الأجنبيــة، والجاليــة اليهودية بالذات، فقــد كان خير مصر محتكرا لسبعة آلاف شخص، لم يكن بينهم سوى أقل من ألف مصــري، وهو ما اعترف به مدبولي ضمنــا، وإن كان اعتبره شيئا على هامش التلاوة، في بلد كان تعداده السكاني بداية الخمسينيات يناهز العشرين مليونا، يعيش أغلبهم الساحق في فقر مرعب، وإلى حد كان معه «مشروع مقاومة الحفاء» هو المشــروع القومي المعلن لحكومات ما قبل ثورة عبد الناصر، وكانت الأوبئة تفتك بالمصريين، فقد مات نصف مليون مصري في وباء الأنفلونزا الإســباني­ة، ومات مئات الآلاف في أوبئة «الملاريا الجامبيــة» و»الكوليرا» خــال الأربعينيا­ت، وكان معدل وفيات الأطفال عند الولادة هو الأعلى في العالم كله مع الهند، ولم يكن التعليم متاحا سوى لبضعة آلاف، صاروا بعد ثورة عبد الناصر بالملايين وبعشرات الملايين، وكان العجز في الموازنة فادحا قبل الثورة، ويصل إلى خمس إجمالي الموازنة المتواضعة، وكل ذلك لا يذكــره الدكتور مدبولي، الذي يتذكر فقــط معلومة عابرة، هي أن إنتاج القطــن وصل في عام قبل الثورة إلى ســتة ملايين ونصف المليــون قنطار، بينما وصل إنتاج القطن عام 1969 إلــى نحو 11 مليون قنطار، وفي فترة كانت مصر تواصل فيها حرب الاستنزاف، وبعد هزيمة 1967، التي اعتبرهــا مدبولي نهايــة لقصة التنمية فــي مصر عبد الناصر، وتلك أكذوبة كبــرى، تفضحها أرقام «البنك الدولي» عن الاقتصاد المصري، فقد كان متوســط معدل النمو الحقيقي 6.7% ســنويا، بين عامــي 1956 و1966، ووصل معدل النمو إلى عشرة في المئة ســنويا في النصف الأول من الستينيات، ولم تتوقــف التنمية مع عملية إعادة بنــاء الجيش من نقطة الصفر بعد 1967، وكانت معدلات النمو الســنوية %4.2 بين عامي 1967 و1969، زادت إلى %5.19 سنويا بين عامي 1969 و1973، أي أن حــروب مصر الدفاعية العادلة، لم تأت ســلبا بكثيرعلى قضية التنمية، والســبب ببســاطة، أن اســتقلال قرار مصر وملاحــم التمصير والتأميم والتصنيع الشــامل، كانت المحرك الجبار لقفزات التنمية الحقيقية غير المســبوقة، ولا الملحوقة مصريا، مع نســبة بطالة شــبه صفرية، وعدالة اجتماعية شــاملة، جعلت عوائد الملكية متســاوية تماما مع عوائد العمل، وأعادت بناء جيش مصر العصري، الذي حقق معجزة العبور في حرب أكتوبــر 1973، بعدها جرى الانهيار العظيم باسم الســام، والانقلاب على اختيارات عبد الناصر كلها، وبدء النهــب الثاني لمصر الحديثة، بعــد النهب الأول، الذي تداعت نكباته منذ انكســار تجربة محمد علي بمعاهدة لندن 1840، وإثقال مصر بعبء الديون.

وكمــا جرى بعد عبد الناصر إلى اليــوم، وهو ما قد يصح أن يدركه مصطفــى مدبولي، المنبهر بجمال المباني الخديوية، ومن دون معرفة مفيــدة بتحولات التاريــخ وبنية المجتمع، مع الركون إلــى تخاريف أكل عليها الدهر وشــرب، من نوع اسطوانة الغطاء الذهبي، الذي ادعوا تبديده في حرب اليمن، وهــي فرية ركيكة، جرى دحضها مرارا بوثائق رســمية، وقد يصح أن يعلم مدبولي بالمرة، أن «السد العالي» الذي بناه عبد الناصر، قد وفّر لمصر فوائض مياه عذبة خلال خمســن سنة مضت، تصــل قيمتها النقدية إلى مئات تريليونات الجنيهات، بحساب تكاليف الفرص البديلة، كمحطات تحلية مياه البحار مثلا، وأن الدولار كان يعادل 30 قرشــا حتــى نهاية عهد عبد الناصر، ويعادل اليوم نحو 16 جنيها مصريا.

وقد لا يتســع المقام للمزيــد الكثير، فقط ندعــو الدكتور مدبولــي إلى قليل من قــراءة تاريخ مصــر الحقيقي، قبل أن يتصــدى للإفتاء في مــا لا يعرف، وقديما قالــوا، من قال «لا أعلم» فقد أفتى.

ألف باء فهم التاريخ، أن تبدأ وتنهي الحقب بحوادث فاصلة، لا بأرقام مئوية ولا نصف مئوية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom