Al-Quds Al-Arabi

إيران وكوريا الشمالية: الاستثمار الذكي لتغييرات البيئة السياسية الكونية

- * كاتب عراقي

إن تغيــر البيئــة السياســية فــي العالم في الســنوات الأخيــرة، وتغير موازيــن القــوى الدوليــة، والصراع البارد الصيني الأمريكي، بالإضافة إلى روســيا، والأخيرة بطريقة مختلفة عن صراع الاثنتين، أفاد كثيرا، إيران وكوريا الشــمالية، الدولتين اللتين، رغم قسوة وشراســة العقوبات الاقتصادية عليهما، لكنهما من الجانب الثاني، أصرتا على متابعة برنامجيهما النووي مع الاختلاف الكبير بين البرنامجين، لجهة التقدم فيه.

كوريا الشــمالية تمكنت من صناعة السلاح النووي، وفي أدوات نقلــه وإيصاله، ووصلت فيهما، إلــى مراحل متقدمة جدا، وتفيد المعلومــا­ت الواردة عنها، بأنهــا تمتلك أكثر من 60 رأســا نوويا. أما إيران فلم تزل بعيدة نسبيا، عن صناعة الســاح النووي، ولكنها تمكنــت من إنتــاج دورة الوقود النووي لإنتاج الطاقة الكهربائية، ودورة الوقود تقود حتما، أو تفتح الطريق واسعا وســريعا أمامها، إن أرادت، صناعة القنبلة النووية، وفي وقت قياسي.

إن ما يحصــل الان لإيران، يشــبه إلى حد كبيــر ما كان قد حصــل لكوريا الشــمالية، قبل أكثر مــن عقدين. الوضع الدولي في الوقت الحاضــر، بالإضافة إلى ما يجري الآن في البيت الداخلي الأمريكي، يعمل لصالح إيران، التي هي ايضا تعمل بذكاء عملي على اســتثماره إلى اقصى حد، يوفره هذا الوضــع لها. نعود إلى الاســتثما­ر الكوري الشــمالي الذكي للوضــع الدولي والأمريكــ­ي على وجــه التحديد والحصر، أي تورط أمريكا أو الأصــح، تصميم أمريكا على غزو العراق واحتلالــه في ولاية بــوش الابــن. كانت حينهــا، في ذلك الوقــت، المراكز النووية الكورية، قد أغلقت، ووضع الشــمع الأحمر على بواباتها، ضمــن أو بنتيجة اتفاق أمريكي كوري شــمالي، في ذلك الحين، لكن الزعامة الكورية الشمالية، حين تأكد لها أن أمريكا ماضية في غــزو العراق، وأنها وصلت في خططها وحشــودها إلى منطقة، من المستحيل عليها الرجوع عنها، قامت بفتح وإزالة الشــمع الأحمر عن بوابات مراكزها النووية، وباشــرت على الفور، بصناعــة القنبلة النووية، بفعل تمكنها مــن دورة الوقود النووي، مــا دفع كولن باول وزير خارجية أمريكا في وقتها، للتصريح، بأن أمريكا قادرة على المحاربة على جبهتين، لكن هذه الرســالة أو التهديد، لم يثنِ الزعامة الكورية الشــمالية عن عزمهــا وتصميمها على الاســتمرا­ر في ما قررت الاســتمرا­ر فيه. ومع اندلاع المقاومة العراقية، التي اســتمرت لعدة سنوات، وأثخنت الجراح في جســد قوة الغزو الغاشــمة الأمريكية، ما أجبر أمريكا على العمل والانشــغا­ل في خياطة جروحهــا، ومعالجتها، حتى اضطرت، في عام 2011 لمغادرة العراق.

فــي هذه الأثنــاء اســتطاعت كوريا الشــمالية، صناعة قنبلتها النووية، لتفاجئ أمريــكا، أو لتضع أمريكا أمام الأمر الواقع. بهذا الإنجاز، تمكنت من قطع طريق مهاجمتها من قبل أمريكا، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في الوقت الحاضر، الذي فيه، ســوف تعجز أمريكا عن إجبارها على التخلي عن سلاحها النووي، لأنه، وكما يصفه زعيمها، أنه الضمانة لأمن كوريا الشــمالية، ووحدة أراضيها وســيادتها، الذي يعززه ويقويــه الدعم الصيني لهــا وبالذات في الآونــة الأخيرة، حيث وصــف الزعيم الصيني، العلاقة مع كوريا الشــمالية، بالعلاقة الاســترات­يجية، وأن الصين سوف تعمل على تقوية هذه العلاقــة، والتزام الصين بدعمها. أمــا من ناحية إيران، فإن الوضع الدولي في الوقت الحاضر، وما ســوف يأتي بعد هذا الحاضر مــن تحولات مفترضة، أو مرتقبة، جميعها تعمل لصالح إيران.

الصراع البارد بــن الصين وأمريكا، بالإضافة إلى تناقض المصالح، على سلم المنافســة على مناطق النفوذ والأسواق، ومــا إليهما بين روســيا وأمريكا، في مناطــق الصراع، التي مــن أهمها الصراع في المنطقة العربيــة.. ودور إيران الفاعل فيها، عبر كتلة صلبة من الأيديولوج­ية الدينية والسياســي­ة والعســكري­ة، بما يجعل منها فاعــا لا غنى عنه في إنتاج أي حل مســتقبلي للصراع في دول المنطقة العربية، التي تمتلك إيران فيهــا، مراكز قوة، قــادرة على المشــاركة الفعالة في

صناعة قــرار الحل. بكل تأكيد أن السياســة الأمريكية تجاه إيران سوف لن يحدث فيها تغير جوهري وحاسم، سواء فاز ترامب أو بايدن، لأن كلاهما وجهان لعملة واحدة. مع هذا فإن المفاوضات الأمريكية الإيرانية سوف تجري بعد الانتخابات الأمريكيــ­ة، حتى إن حدثت اضطرابــات امريكية بعد إعلان نتائج الانتخابات، وهذا أمر متوقع الحدوث، فســوف يكون محدودا، ويصار إلى معالجة الوضع من قبل أمريكا العميقة. إيران من جهتها، وحســب ما تتوارد مــن معلومات وأخبار، سواء من سياق تصريحات مســؤوليها، أو ما يتم تسريبه، من خلال وســائل الإعلام، ســواء الايرانيــ­ة أو غيرها، بأن الانتخابــ­ات الرئاســية الإيرانية، التي ســوف تجري في منتصف العــام المقبل، تتجــه إلى دعم الجنــاح المحافظ أو الجناح المتشــدد، الــذي هو أكثر قربا من الحــرس الثوري، الــذي أخذ على الصفقة النووية بين إيــران والقوى الدولية الكبرى الســت، في حينها، بعض السلبيات. بناء عليه، فإن إيران بزعامة المرشــد الايراني الســيد علي خامنئي، ربما، قد عقدت عزمها على تشــكيل وضع ايراني متشــدد، بتهيئة زعامة إيرانية أكثر تشــددا من الزعامة الحالية، بما يقود أو ينتج عنه، تشكيل وفد مفاوض، له شروط جديدة في إعادة التفــاوض حول الصفقــة النووية، مثلما لأمريكا شــروطها الجديدة في مفاوضات الصفقة النووية، التي لن تجري قبل الانتخابات الايرانية. من الســابق لأوانه، التنبؤ بما سوف ينتج عن هذه المفاوضات المفترضة. هنا من المهم الإشارة، إلى أن أهم عنصر من عناصر صناعة الســاح النووي، هو دورة الوقود النووي، فهي العتبة لصناعة القنبلة النووية. إيران من جهتها لن تتخلى عن هذه الدورة في أي مفاوضات مقبلة، مســؤول الطاقة النووية الايرانية، صرح أخيرا، بأن إيران لن تتخلى عن برنامجهــا النووي، أي دورة الوقود النووي، حتى وان لم يقلها بصريح العبارة، لكن المقصود منها واضحا كل الوضوح، ليكمل أن البرنامج النــووي الإيراني باق إلى الأبــد، ولا توجد قوة فــي الكون، قادرة علــى إجبارنا على التخلي عن طموحنــا النووي. إيران، من الممكن أن تناور في الشرطين الاخرين اي الصواريخ، وفضاءات نفوذها الديني والسياسي، وحتى العســكري بدرجة أو بأخرى، كما حدث وجرى في الآونة الأخيرة، في لبنان من مفاوضات ترســيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان والكيان الصهيوني، الذي يعتبر ضمنيــا، اعترافا لبنانيا بالكيان الصهيوني، لأن إقرار وتوقيع لبنان بحدود هذا الكيان معهــا، بعد الاتفاق عليها، هو مقدمة قانونيــة، لاعتراف الأولى بالثانية. المســؤولو­ن اللبنانيون، وفي المقدمة منهم، مســؤولو حزب الله، يصفون المفاوضات بأنها فنية، وليــس لها علاقة بالتطبيع أو باتفاق ســام، لكن هذا لا يغير شــيئا من الواقع علــى الأرض، في العراق أيضــا، أقرت فصائل مقاومــة بالوجود الأمريكي في البلد، وهي فصائــل ولائية، كما يعلن عن مســمياتها، وعن مرجعيــة خطابهــا السياســي، وفعلها العســكري، المقاوم للوجود الأمريكــي على أرض العــراق، هدنــة، تلتزم فيها بعدم مهاجمة الســفارة الأمريكية أو بقية الوجود العسكري الامريكي في الوطــن بانتظار جدولة الانســحاب الأمريكي بالحــوار بين حكومــة الكاظمــي والأمريكيـ­ـن.. أما هامش المناورة الإيرانية في حقل الصواريــخ فهو محدود جدا، أي أن إيران لا تســمح كثيرا بتقيد حركتها فــي مديات إنتاجها. الزعامة الإيرانية كما هي الزعامة الكورية الشــمالية قبل ما يقارب العقدين، تســتثمر الوضع الدولي والصراع الصيني الأمريكي، وتغير موازين القوى الدولية، لذا، فهي قد رسمت سياســتها في صراعها مع أمريــكا، على الاقــل الظاهر منه للعين، باستثمار ما نتج عنه وما ســوف ينتج منه في المقبل من الزمن بأقصى مساحة للاســتثما­ر في تحقيق طموحاتها ســواء النووية أو في غيرهــا.. وهذا هو ما يفســر لنا، ميل الزعامة الإيرانية، بقيادة المرشــد.. وهو ميل كامل أي بزاوية 180درجة، في ترجيح كفة الجنــاح المحافظ، في الانتخابات الرئاســية الإيرانية المقبلة، الذي هو قريب جدا من الحرس الثوري الايراني، إن لم يكن يمثله تمثيلا كاملا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom