Al-Quds Al-Arabi

مباهج الانسجام بين الاستبداد والرأي العام

-

■ ظهــرت أخيرا نظريــة عربية في شرعية الحكم وفي أصول علاقة القرار السياســي بالإرادة الشعبية لم يسبق أن خطرت لأحد من كبار الفلاســفة على بال. فقد بلغ من تفرّدها العجيب أنه ما أن يكتشــف المرء فحواهــا حتى تتبادر إلى ذهنه صورة لصاحب النظريــة وهو يلوّح بعلامــة النصر التاريخي على أرسطو، ولوك، ومونتسكيو، وروسو، وتوكفيل، وستوارت ميل وغيرهم من أقطاب الفكر السياسي لا بالنقاط فحسب، وإنما بالضربة الفلســفية القاضية. ولكن الأمر لم يتوقف لديّ عند حد ارتسام صورة مدهشة لما حاق بكبار الفلاسفة، وإنما الذي حصل أيضا هو أن اســم صاحب النظرية الجديدة قد أوحى إليّ بسيل مــن الذكريات والصور القديمة. فقــد كان الأطفال في بلدتنا، في السبعينيات، يعرفون أســماء كثير من السياسيين والمسؤولين العــرب والأجانب. لا بســبب اهتمام طفولي بالسياســة. وإنما كان اللعب عادة ما يجري في الشــوارع. وكانت الشــوارع تعج بالمقاهي.

وكان من عادة المقاهي أن تترك المذياع يصدح بأعلى صوت من الصباح حتى العشاء. فلم يكن للزبائن وبقية عباد الله من المارة والأطفال والمتسكعين مناص من السماع المتكرر لنشرات الأنباء. وقد كانت النشرات عامرة بأسماء مثل هنري كيسنجر، وأندري غروميكو، وبرونو كرايســكي، والمارشــا­ل تيتــو، وعبد العزيز بوتفليقة )لما كان نجم الدبلوماسـ­ـية الجزائرية في عز إشعاعها العالمثالث­ــي( وأحمد زكي يمانــي، ومانع ســعيد العتيبة، الخ. فصارت هذه الأســماء معروفة لدينا رغم أنها ما كانت لتعني لنا شيئا مما تعنيه أسماء العظماء المحبوبين المتألقين في سماء المجد الكروي: روبرتو ريفلينو، وفرانز بيكنبــاور، ويوهان كرويف، وصانــدرو ماتزولا، والطاهر الشــايبي، وعبــد المجيد بن مراد، و«بيلي العــرب» محيي الدين هبيطة صاحب الهدف التونســي الجميل في شباك البرازيل!

وربمــا لم يكن الجمهــور في معظم البــاد العربية يعرف من شــخصيات دولة الإمــارات الوليدة آنذاك إلا اســمين: الرئيس زايد بن ســلطان آل نهيان، رحمه الله، ووزير النفط والصناعة والمعادن مانع ســعيد العتيبة. وممّا جعل اســم العتيبة متداولا أنه بقي مشــرفا على قطاع الطاقة في بلاده طيلة عقدين، إضافة إلى أنه كان ذا طلعــة لافتة )ينطبق عليهــا الوصف الانكليزي: «كالارفول».) أما شهرته عند العرب، فمردّها أنه كثيرا ما كان يعبر عن مواقف بلاده الرســمية في مؤتمرات أوبك… شــعرا عموديا فصيحا بليغا. وكانت الصحف تنشــر «قصائده البترولية» هذه لأنه كان مواظبا على نظم قصيدة جديدة في كل مؤتمر. فكان ذلك من دواعي الأنــس الإعلامي أيام النفط في فيينا. هكذا عرفنا منذ أن كنا صغارا أن العتيبة وزير شــاعر وتناهت إلى أسماعنا نتف من شــعره الغزلي-البترولي، فكان أن جعله هذا الملمح الطريف شخصية نجومية خارجة على المألوف.

الآن بعد أكثر من أربعة عقود، عاد اسم العتيبة للأخبار، ولكن ليس بموهبة الشــعر وإنما بمعجزة الفكر! عاد الاسم للأخبار لا من أوســع الأبواب، وإنما من أضيقها، بل من ثقب مخصوص هو المناكفات القبلية الخليجية في مرحلة أولى، ثم التشريع للتطبيع مع دولة الاحتلال في مرحلة تالية. ذلك أن حرص سفير الإمارات في واشــنطن يوسف مانع العتيبة على إســماع الإسرائيلي­ين ما يطربون لســماعه قد حمله أخيرا، أثناء ندوة كان حاييم سابان من أشــهر المشــاركي­ن فيها، على القفز من ضرورات التبرير إلى مزاعم التنظير. قال الســفير: «عندما تتخــذ أي دولة قرارا بهذه الأهمية )أي قرار التطبيع( فــإن عليها أن توازن بين عدة عوامل داخليــة. هنالك العامل الاقتصادي: ما هــي المنافع؟ هل التجارة والاســتثم­ار وإنشــاء وظائف العمل والرحــات الجوية منافع كافية؟ وهنالك عامل الرأي العام. حيث أن الرأي العام في مختلف البلدان يتخذ مواقف متنوعة من مسألة العلاقة مع إسرائيل. إن الاعتقاد الســائد في الخارج هو أننا لا نعير انتباها للرأي العام داخل الإمارات لأننا لســنا في دولة ديمقراطية. ولكن الأمر على العكس من ذلك تماما. إذ بسبب أن دولتنا ليست ديمقراطية، فإن من اللزام علينا أن نكون في تناغم تام مع ما يريده شــعبنا ومع نبض الشــارع. ولقد أراد الشــعب هذا الأمر )التطبيع( بحق. إذ إننا لم نمله على الإماراتيي­ن إملاء ولم نفرضه قســرا ضد الإرادة الشــعبية. بل إن هنالك ابتهاجا حقيقيا في أوساط الشعب بهذا الأمر».

تلك هي النظرية الكوبرنيكي­ــة الجديدة: «عندما يكون الحكم اســتبدادي­ا، فذلك يعني أنه فــي تناغم مع الإرادة الشــعبية». نظرية لطيفة ظريفة، ولكــن لا مهرب لها من الانزلاق الفوري إلى نهايتها المنطقية: إذا كان الحكم ديمقراطيا، فذلك دليل على أنه في تناقض مع الإرادة الشعبية!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom