Al-Quds Al-Arabi

علاقة صفقة التطبيع الإماراتية البحرينية بالِّدين الإبراهيمي الجديد

- ■ ٭ كاتب من مصر

ســبق إطلاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مســمى «الاتفاق الإبراهيمي» على صفقة التطبيع الإماراتي البحريني الخاســرة مع تل أبيب، ســبقها جهود صهيو أمريكية وغربية لإعلان دين جديد باسم «الدين الإبراهيمي» وتكرر على لسان الســفير الأمريكي في تل أبيــب ديفيد فريدمــان، وهو يصف الصفقة بأنهــا تيمنا بـ«أبو الديانات الكبيــرة كلها، ولا يوجد شــخص يرمز بشــكل أفضل إلى إمكانية وحدة هذه الديانات الثلاث العظيمــة أكثر منه» وهي نفس اللغــة التي تحدث بها الرئيــس الأمريكي وهو يعلن عــن الصفقة منتصف الشــهر الماضي.

واعتبر ترامــب «الاتفاق الإبراهيمي» إنجــازا حققه على صعيد سياســته الخارجية، ووظفــه -كصهيوني متعصبفي الحملــة الانتخابية، وقدمه عربونــا وعرفانا للإنجيليين، الذين ناصــروه وأيدوه في انتخابات 2016، وأصبح لا يتحمل خسارة أصواتهم، وحاجته لها للفوز في الانتخابات المقررة في الأيام القليلة القادمة. وأضحى الاتفاق الإبراهيمي ورقة يلعب بها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو لكسب معاركه الجنائيــة الداخلية العديــدة التي قد تؤدي بــه إلى المحاكمة والسجن.

و«الاتفاق الإبراهيمي» ليس كأي اتفاق آخر سبقه؛ اختلف عن «اتفاق الســام» مع الســادات )1979( ولا يشــبه «اتفاق وادي عربة» مع الأردن )1994( فلم يؤد أي منهما إلى الاختراق المطلوب، الذي تســعى إليه الدولة الصهيونية، ونفس الشيء حدث بعد توقيع «اتفاق أوسلو» مع الفلسطينيي­ن.

ويُعَوّل على «الاتفاق الإبراهيمي» في نقل الدولة الصهيونية من كيان مرفوض عربيا وإسلاميا وإنسانيا، واستمر منبوذا؛ غير مرغوب فيه أو مرحب به، وتنظر تل أبيب إلى النجاح الذي حققته بالصفقة الإماراتية البحرانية، على أنه يجعل منها كيانا مقبولا ومرغوبا فيه، وترى من علامات ذلك النجاح في تمكنها من وضع إيران في دائرة «العدو البديل» وتعمل على استقراره في صلب العقيدتين السياســية والدفاعية الخليجية، والعمل على تعميمه على باقي الحكومات العربية. ما هو أصل الحكاية؟!. وأصــل الحكاية إن جامعة «هارفــارد» الأمريكية قدمت في عام 2004 مبادرة باســم «مســار الحج الإبراهيمـ­ـي» وتولتها كلية الحقوق بالجامعة، وحشدت لها مشاركة عالمية؛ باحثون، ورجال دين، وأصحاب أعمال، وعلماء اجتماع وخبراء سياحة وآخرون، والغطاء المعلن هو إحياء مسار قطعه النبي إبراهيم )عليه السلام( ســيرا على الأقدام؛ مارا بأماكن ومواقع دينية وثقافية ومعالم سياحية، قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، واتفق باحثون في دراســات «الكتاب المقدس» على أن النبي إبراهيم خرج من «أور» الكلدانية في العراق، وسار بمحاذاة نهر الفرات إلى «حاران» بتركيا، مارا بســوريا، وأرض كنعان )فلسطين( وانتهى بأرض مصر.

ورجع من مصر مرورا بفلسطين. واختلف باحثون على ذلك المســار، وطرحوا فرضيات أخرى، ما زالت محل خلاف، وقُدِّر طول المســار المفترض بـ1100 كلم؛ يبــدأ بمحاذاة نهر الفرات، واصلا إلى حلب فدمشــق حتى الأردن والأراضي الفلسطينية التاريخية؛ المســتولى من الدولة الصهيونيــ­ة، وما تبقى منها مساحة صغيرة؛ في الضفة الغربية وفي غزة؛ والقدس ومقام إبراهيم بمدينة الخليل. ولم يشــمل المسار الإبراهيمي المعاصر بلاد «أور، وحــاران ومصر والخليل» وتقع على جوانبه أماكن ومواقع شهيرة عالميا؛ الحرم القدسي، ويضم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيســة القيامة، إضافة لكنيسة المهد بمدينة «بيت لحم» والجامع الأموي بدمشق.

ويتوقع رعاة المبادرة جذب المسار لزوار وباحثين وحجاج من أنحاء العالــم، لمكانة إبراهيم عليه الســام، أبو الأنبياء، والجد الأكبر للعرب؛ مســلمين ومســيحيين ويهود، وبالتالي ينظرون إليه كـ«عامل توحيد» لأكثر من ثلاثة مليارات إنسان، والمشــكلة هي في معنى التوحيد، وهــو معنى عنصري محمل بأوزار تاريخية ودينية وسياسية وعســكرية، وإذا ما توحد هذا الكيان فســتؤول قيادته وســيادته للحركــة الصهيونية والولايات المتحدة.

ويتوقع رعاة المشــروع جذب المســار لفئات أخرى من غير أتبــاع الديانــات الإبراهيمي­ة، مــن المغامريــ­ن والجغرافيي­ن والكتاب والرحالة. على أن تترك لهم حرية قطع المســار كاملا؛ ســيرا على الأقدام أو مجزأ وبأي طريقة تناســبهم؛ بواسطة الدواب، أو وســائل النقل الميكانيكي­ة كالســيارا­ت والحافلات

وغيرهــا. وعرض الرعــاة أهدافا أخرى؛ ثقافية، وســياحية، ودينية، واقتصادية وبيئية وشــبابية يُحققها المشــروع. فمن الناحية الاقتصادية؛ خلق فرص عمل في البنى التحتية، وشق الطرق، وبناء الفنادق والمطاعم، والخدمات السياحية.

وعبرت الأهداف غير المعلنة عن نفسها، وظهرت تحت مسمى «الناحيــة الاجتماعية»؛ ومهمته تشــجيع التفاهم بين العرب والمســلمي­ن من ناحية والغرب من ناحية أخــرى، والزيارات المتبادلة، والصيانة وترميم الأماكن المقدســة، وعرض التراث الثقافــي، وركز مــا اندرج تحــت «الناحيــة التعليمية» على رفع مســتوى التفاهم الدينــي والثقافي، واعتمــاد العلاقات الشخصية المباشــرة، وبرامج حماية البيئة الملاصقة للمسار؛ كتنظيف المجاري المائية والأنهار.

ونظمــت جامعة هارفارد في خريــف 2006 رحلة على طول المسار الإبراهيمي؛ ضمت باحثين وصلوا الأراضي الفلسطينية فــي منتصف تشــرين الثانــي- نوفمبر، واجتمعــوا برجال دين وشــخصيات عامة. ووجه إليهم رئيــس الوفد؛ الأمريكي الجنســية كلمة يطمئن بها الفلسطينيو­ن، ويعتذر عن سياسة الإدارة الأمريكيــ­ة تجاه القضايا المحليــة والإقليمية، ووصف أعضاء من الوفد الكلمة بأنها أشاعت الارتياح بين الشخصيات الفلسطينية الحاضرة)!!(.

وركز «يوري آدم» مدير المشــروع، أن المبادرة تعزز للحوار بــن الأديــان الســماوية الثلاثة، وتــروج للتــراث الثقافي بالمنطقة، وتقتفي مســار الخليــل إبراهيم، وتقــوي التفاهم والعلاقــا­ت الاجتماعيـ­ـة والاقتصادي­ــة، وتحقــق العدالة، وتصون الحقوق)!!( وتأكيد نفي الطابع السياسي للمشروع؛ مركزا على الطابع الثقافي والمعرفي للمســار الإبراهيمي؛ غير السياسي وغير المنحاز، والُمحْترِم لكل الشعوب)!!(.

ولم تَخْل مداخلات الفلســطين­يين وتعليقاتهم من الأسئلة السياســية، وتعرضت للفيلم الدعائي عن المسار، وأوضحوا إقــرار الإســام بالتعدديــ­ة، ورحبــوا بفكرة المســار، إذا ما اســتهدفت التقريب بين الديانات الســماوية، وأشــاروا إلى المشكلة الحقيقية هي ما يقوم به الاحتلال الصهيوني وتضييقه على حركة الفلســطين­يين، وارتكابه المذابح والمجازر وتهويده الأرض وإقامة الجدار العازل، وممارسة أبشع الجرائم في حق الحرم الإبراهيمي من قِبَل الاحتلال، ورفضوا وصف الحرم القدســي في الفيلم الدعائي بـ «جبل الهيكل .»

وأيد رجــل الدين الأرثوذكسـ­ـي الفلسطيني المعروف عطا الله حنا، على ما قاله قاضي القضاة الفلسطيني الشيخ تيســير التميمي عن التعددية لدى الشعب الفلســطين­ي، وعبر عن ترحيبه بأية بادرة تدعو للتســامح، وتقوم على التواصل، وكرر التأكيد على العقبة الحقيقية تتمثل في الاحتلال الإسرائيلي والتمييز العنصري )الأبارتايد( الذي يصادر الأراضي والمقدســا­ت الإســامية والمسيحية، وصرح وزير السياحة والآثار الفلسطيني، بإمكانية استغلال مبادرة المســار الإبراهيمي لإيصال الصوت الفلســطين­يين ومعاناتهم إلى العالم.

وردا علــى طلب معرفــة الجهــات الممولــة، ودور الدولة الصهيونية في هذه المبادرة، وسبب استثناء العراق من المسار؛ رد «آدم» بأن التمويــل يعتمد على التبرعات، ووجود كثير من الناس، من دول مختلفة، يســاندون المبادرة، وأرجع استبعاد العــراق إلى الأوضاع السياســية فيه، ورد علــى دور الدولة الصهيونية بأنه مثل دور أي دولة أخرى مر بها المسار)!!(. وفي رده على سؤال عن الدرس المستفاد من مواجهة النبي إبراهيم للطاغوت، فقال: ««درس مهم يمكــن فعلا الاقتداء به»،!! وقال «مهمتنا هي خدمتكم ومســاعدة الشعب الفلســطين­ي، ولهذا جئنا إلى هنا لنتعاون معا من اجل إنجاز المشروع.)!!(»

وبعد كل ذلــك تجنب «يــوري آدم» التطرق إلــى المقاصد الصهيونية التي حركتهم، ومن يقف وراءهم في اقتفاء أثر أبو الأنبياء إبراهيم، ولا إلى الجهود الجارية منذ سنوات للتبشير بدين جديد؛ جامع للمسلمين والمسيحيين واليهود، هو «الدين الإبراهيمي» الذي تم إعداده واخراجه في معامل ومراكز الأمن والمخابــر­ات الأمريكية، وكله لحســاب الحركــة الصهيونية، العاملة على صهينة «القــارة العربية» من المحيط إلى الخليج، وللأسف يجدون الدعم والمساندة من صهاينة عرب ومسلمين، وهذا مبحث آخر نتناوله في أقرب فرصة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom