Al-Quds Al-Arabi

استعادة أموال الشعب

- * كاتب وأكاديمي جزائري

«عَفا الله عمَّا سَــلف»، مَقُولة لا تَصْدق على أموال الشــعب، التي تُعْرف وتُعرّف قانونا بالمال العام، المسَــوّغ القانوني والدســتور­ي لوجود الدولــة ذاتهــا. فلا يمكن إطلاقــا أن تتنكر الدولــة لذاتها، أو تغفــل وتتغاضــى عــن نقص في كيانهــا، وإلا أصيبت بالعجز، فالدولة الجزائرية المنشــودة لما بعد ســلطة العصابة، لا يمكن أن تكون لها قائمة ما لم تُســتعد أموال الشــعب المنهوبة كجرائم في حق الشــعب. إن قيمة الشــعب من قيمة أمواله، واســتعادة المنهوب من هــذه الأموال هو الشرط الأســاس لأي محاولة إصلاح لمؤسسات الدولة، وإرساء معالمها الآمنة والقادرة.

في ظل ســلطة العصابة التي اســتوفت شــروطها، كما يعترف الجميع، ويشــفع بذلك القضاء، تمت عملية نهب منظم عبر «تشــريعات» غير قانونية لسرقة أموال الشــعب. وكل ما تمت ســرقته ونهبه والاستيلاء عليه، يجب أن يعاد إلى مؤسسة الدولة في عهدها لما بعد سلطة العصابة.

والحالــة القائمة الآن هي بمثابة حالة اســتعمار، قبل اســتعادة الجزائر لاســتقلال­ها. فقد كان المبــرر الرئيس لإمكانية تدبير أمر الدولة وشــؤونها العامة هو استعادة المال العام، الذي كان يعني ثروات الجزائر ومواردها، التي نهبها المستعمر الفرنسي. الوضع نفسه اليوم في الجزائر، التي تتطلع إلى تجاوز سلطة العصابة، فإذا تم فعلا، وعن صدق، أن الدســتور الجديد قد تبنىّ «الحــراك المبارك»، وهو بمثابة الثــورة في مدلولها المدنــي المعاصر، فمعنى ذلك أن أول أثر يجب أن يرتبه هو اســتعادة أموال الشعب المنهوبة، في ظل حكم ســلطة العصابــة، لأنها كانت تدار من قبل قوى غير دســتورية، كما يشهد على ذلك الجميع، ولأن أختام وتوقيعات الوثائق «الرســمية» لا تحظى بأي اعتبار قانوني أو سياســي. فقد قام السياســي باغتيال القانوني، تَجَسَّد في حكم صوري افتراضي لرئيس مجرد جثــة بالكاد تحرك أصابع يدها. فأموال الشــعب في دولة القانون والحق، ليســت مجرد كلمــات غوغائية تذكر في الخطابات الشــعبوية، حيث يجري تجريــد الكلمات من معانيها الحقيقية، ومن زخمها الحيوي النابض، فالمال هو الملكية العمومية التي تمثل ماهية الدولة وكيانها الحيوي. كما أن الشــعب، مصطلح قوامه الركــن الركين في ثالوث الدولة الحديثــة والمعاصرة: الشــعب والدولة والإقليم. فمفهوم أموال الشــعب يســتمد من حياة الدولة القائمة، تقــوم بقيامه وتزول بزواله. ولعــلّ الحالة التي تجتازها الدولة الجزائرية، أو ما بقي منها، تؤكد على أكثر من وجه، أن نهب وسرقة والاســتيل­اء على أموال الشعب قد أفضى، في المطاف الأخير، إلى انهيــار الدولة ذاتها. كانت بدايتها ســلطة العصابة، وســوف تتوالى عمليــة الانهيار لبقية عناصــر الدولة، إذا لم تســتعد أموال الشــعب.. لأنه من المستحيل أن يبقى نظام من دون استعادة أموال الشعب، فهي تعني رأســمال الدولة وقوامها، واسترداد المال ذاته، يعني الحقوق العينية والنقدية للشــعب، التي لا تزال في قبضة ناشطي سلطة العصابة وعُرّابها.

الحقيقــة، أن أمــوال الشــعب المغتصبة، كمــا يجري تجريدها وتقييدها في المحاكم القضائية، بمناســبة مثول عناصر حكــم العصابة أمامها، لا تقبــل التقادم، ولا يمكن التنازل عنها، لأنها ليســت ملكية أفراد من الناس، بل هي حق الشــعب المندرج والمدْغَم في صلــب الدولة، وبالمعنى الذي لا يمكن لكيــان أن يتنكر ويتنصل عن جزء منه، وإلا أصيب بالعجز المزمن. وعليــه، فلا يمكن أن نخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد اســترداد كل أموال الشعب، لأنها ملكية عامة لا تقبل التصرف فيها من قبل شخص، ولأنها معنوية واعتبارية، كما يرى رجال القانون.

الحالة القائمة اليوم في الجزائــر، تَحُثُّ على ضرورة اعتبارها بمثابة الســياق الذي يوفــر كل الحيثيات، التي تُمَكّــن مؤسســات الدولــة المتبقية، من اســتعادة أموال الشــعب بالمنطق الذي يســتند إلى أن الثروة المغتصبة، تمت في ظل نظام مُحْكم الفســاد، ووفق خطة مُتْقَنة لنهب أموال الشــعب، وشــل إرادته، بالحالة نفســها التي تم فيها وصف النظام الفرنســي بأنه اســتعمار، طارئ على الشــرعية، وفاقد لمبرر وجوده في الجزائر. فالمقارنة بين الوضعيتين واردة فعلا، مع حســاب التفــاوت المرحلي: مرحلة الاســتعما­ر وما بعدها. مرحلــة حكم العصابة وما بعدها. وفي كلا الحالتين يجب اســتعادة أموال الشــعب التــي تعبر عن الدولة ومؤسســاته­ا. ولعــلّ ما ينجم عن هذا، هو استبعاد أي ســعي إلى التماس العفو عمّا سلف، من قبل أي شــخص حتى لو كان رئيس الدولة نفسه، لأن المؤسسة لا تلغي المؤسسة، مال الشعب الذي هو مال عام لا تتصرف فيه إلا مؤسسة عمومية كاملة الوصف القانوني، وهو الــذي لا تتوفر عليه الجزائر بعــد، في ظل امتدادات نظام العصابة، سواء على مســتوى المؤسسات الكبرى، أو المؤسســات الصغــرى، التي لا تــزال تحكمها علاقات مريبة وفاسدة، تنتظر سنوات من أجل تطهيرها. فالمشهد الذي يقدمه الحراك، لأنه هو الذي أطاح بالرئيس السابق وعصابته، ليس من الناحية العملية فحسب، بل حتى من الناحية المعنوية والرمزيــة والتاريخية أيضا، الأمر الذي يفرض على الســلطة القائمة، أن لا تُدَبّر حياة الجزائريين إلا باســتعادة واســترجاع وتحويله من مال الشعب إلى المــال العمومي، الشــرط الذي لا بد منه لإمكانية تســيير وتدبير شرعي للبلد.

ما يســتوجب التوكيد عليه، قبــل أن نختتم المقال، أن الدولة ذاتها تنطوي على فكرة العــام والعمومية، بالقدر الــذي لا يمكن التغاضــي عــن كل مكوّناتها التــي تُدرك بهــا كدولة فعلا. وقِــوَام الدولة الحديثة هو الشــخصية الاعتبارية، التي لا تســمح بنهب أموالها وســرقتها، على المنوال نفســه الــذي يدافع بــه الشــخص الطبيعي عن أموالــه وحياته، حتى لــو تطلب الموت في ســبيل ذلك. غير أن الآيــة انقلبت تماما في ما تعانيــه الجزائر ما بعد الاستعمار، خاصة في ظل ســلطة العصابة، حيث التَمَس رموزها الدولة وتَوَسَّلوها، ليس لمراكمة الثروة وتكديسِها بدون وجه حق فحســب، بل بالبقاء في الحكم، واحتكار مؤسســات الدولة، وفكرة العمومية، كأفضل ســبيل إلى حماية المال المنهوب والاحتفاظ به ثــم توريثه، خاليا من الجهد والمهنيــة وتقاليد العائلة وتاريخهــا في الصناعة والتجارة والتقنية. فهو مال الشعب الذي أُكْتُسب بصورة غير شرعية وسَــيُورث بشكل غير شــرعي أيضا، ويبقى دائمــا محتفظا بقوته التدميرية وممارســته الفاســدة، غير قابل للتعامل مــع اقتصاد الدولة فــي تعريفها المنزَّه عن الأغراض الفردية والمتعالية عن المطابع السياســوي­ة العارضة.

كل المسائل المتعلقة بالدولة، وإمكانية إصلاحها، يجب أن تتراجــع، مــا لم يجرِ إصــاح المؤسســات التي تكفل اســتعادة أموال الشــعب وحمايتها من التداول الفاسد، لأن المال الفاســد له من القوة والتأثير، بحيث أنه يفســد الســلطة ويدخلها في دوامــة الفِتن والعُنــف والإرهاب والقَمع والاضطرابا­ت التي لا تنتهي، بل تُهَيْكَل ضمن نظام الحكم، كما حاولت سلطة العصابة في الجزائر وغيرها من البلدان العربية المتخلِّفة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom