Al-Quds Al-Arabi

شعوبُنا العربية لا يمكن أن تقبل التطبيع

- * *كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

ثمة حدثان مهمــان خلال الأيام الماضيــة، يجب الانتباه لهمــا في ملــف التطبيع العربــي مع الاحتلال الإســرائي­لي، الأول هــو طرد الوفد العربــي المطبع من المســجد الأقصى، علــى الرغــم من إحاطتــه بحماية مــن قوات الاحتــال، أما الحدث الثانــي فهو تظاهرة شــعبية في عاصمــة البحرين المنامة، تندد باســرائيل وترفض التطبيع، في مواجهة وفد قادم من تل أبيب لزيارة البلاد.

ربما يعتقد البعــض أن هذين الحدثين عابران، حيث كان من الممكن أن لا نسمع بهما لولا مقاطع فيديو قليلة تبرع بها ناشــطون على شــبكات التواصل الاجتماعي، لكن الحقيقة أن كلا منهمــا يحمل دلالات بالغة الأهميــة، وأغلب الظن أن الإســرائي­ليين ينتبهون جيــداً لمثل هذه الأحــداث، لأنها في الحقيقة بالغــة الأهمية، ولأنها الوحيدة التي تُفســد عليهم فرحتهم باختراق الصف العربي، والتطبيع مع دول المنطقة واحدة تلو الأخرى.

الرســالة الأهــم التــي نقرأهــا مــن هذيــن الحدثــن، وهي رســالة مشــتركة، مفادها أن الشــعبين الفلســطين­ي والبحريني، على حد سواء، يرفضان التطبيع مع الاحتلال، وأن لا أحــد في القــدس أو المنامة يُصــدق أكاذيب الأنظمة، التــي تتحــدث عن أن هــذه الاتفاقات تحقــق مصلحة أو أن منها أي فائدة، وإنما الضمير الجمعي لكلا الشعبين وللأمة جمعــاء يتفق علــى أن هذه الاتفاقات تشــكل خيانة لقضية القدس، وطعنة في الظهر للشــعب الفلسطيني، الذي يقاوم الاحتــال بالنيابة عــن الأمة، منذ ســبعة عقــود وأكثر. أن تخرج مظاهرة شــعبية في بلــد مثل البحرين تنــدد باتفاق أبرمته الحكومــة مع تل أبيب، فهذا حــدث مهم جداً، فنحن لا نتحدث عن باكســتان ولا إندونيسيا ولا تركيا ولا اليمن، ولا غيرها من الدول التي تشهد احتجاجات يومية حول كل الشؤون والقضايا، وإنما هي تظاهرة في بلد كان فيه شيء اسمه «ميدان اللؤلؤة»، فســحقته الدبابات على من فيه من بشر وشــجر وحجر، وتحول الى مجرد ذكرى، أو جزء من تاريــخ.. أي أننا نتحدث عن بلد يدفع فيــه المتظاهرون ثمناً غاليــاً، وأغلى من أي مكان آخر. فــي حادثة القدس وزيارة الوفد التطبيعي إلى المسجد الأقصى، فثمة أمر بالغ الأهمية لا يفهمه إلا ســكان المدينة المقدسة، وهو أن الوفد التطبيعي المتصهين دخل الى الحــرم من «باب المغاربة»، وبحماية من جنود الاحتلال، وهذا الباب هــو الأقرب إلى حائط البراق، وقــد اســتولى عليه المحتلــون الإســرائي­ليون منذ ســنوات طويلــة، ومنعــوا الفلســطين­يين مــن اســتخدامه، خوفاً من أن يكــون مدخلاً للاشــتباك مع المســتوطن­ين، الذين يؤدون طقوســهم على حائط البراق.. هذا الباب لم يعد بمقدور أي فلســطيني اســتخدامه، ولا الاقتراب منه، بينما يستخدمه المســتوطن­ون حصراً في اقتحاماتهـ­ـم.. واليوم بات مصدراً لاقتحامات وفود المطبعين العرب!

دخول الوفــد الخليجي المطبع إلى المســجد الأقصى من باب المغاربة، وبحراسة من جنود الاحتلال، وخروجهم من الأقصى مطرودين منبوذين، يعني أن الإســرائي­ليين ودول التطبيــع العربي، كلاهمــا يُدرك أنَّ الفلســطين­يين يرفضون هــذا التطبيع، ويعتبرون أنه دعم للاحتلال على حســابهم، كما أن اســتخدام هــذه الطريقة في اقتحــام الأقصى، تعيد التأكيــد على أن المرابطين هناك من الفلســطين­يين يرصدون ويتابعــون ويعلمون من يزورهم ومن أيــن يأتيهم. مظاهرة البحريــن وطــرد الوفــد الإماراتــ­ي مــن المســجد الأقصــى دليــل على أن شــعوبنا العربيــة ما زالت علــى موقفها، وأن الاتفاقــا­ت التــي تم ابرامها مــع الاحتلال لا تمثل الشــارع، والحراســة الإســرائي­لية المشــددة للمطبعين، تعنــي أن تل أبيب تفهم هذه الحقيقة وتُدرك بأن التطبيع الرسمي ممكن، أما الشعبي فلا يزال بعيداً.

شــعوبنا العربية مازالت حرة وحية وهي ليست جموعا مــن الأغبياء، كما تحاول بعض الأنظمــة العربية أن تتعامل معهــا، والضميــر الجمعي للأمة لايزال يرفــض التطبيع مع إســرائيل، والتعامل مع الإســرائي­ليين علــى أنهم أصدقاء، كما أنَّ شــعوب الخليــج لا يمكن أن تتحــول بضغطة زر إلى اعتبار الفلســطين­يين أعداء، والاســرائ­يليين أصدقاء.. هذا مستحيل. كاتب فلسطيني

قــرأت مذكرات الرئيس الفرنســي الأســبق نيكــولا ســاركوزي «زمــن العواصــف» الصادرة نهايــة يوليو/ تموز الماضي، التي روى فيها جزءا من مسيرته السياســية، خاصة العلاقات مــع زعمــاء الــدول ومنهــا افريقيا. وبحثت كثيــرا عن نوعية العلاقة التي جمعته بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ولكنه لم يقدم المعطيات الحقيقية، واكتفى بصياغة صورة غرائبية عن «زعيم ثورة الفاتح». وسيتولى القضاء الفرنســي الآن إعــادة كتابــة، أو بالأحــرى تصحيح هذه المذكرات، وهي «تمويل القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية».

فــي العلاقات الدولية، يجري الحديــث كثيرا عن تمويل الحملات الانتخابية، خاصة الرئاســية في هذا البلد أو ذاك، وهــي في الاتجاهين من العالم الغربــي نحو دول من العالم الثالــث، أو من دول العالم الثالث نحــو دول غربية معينة. ومنذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، التي فاز فيها دونالد ترامب، والولايات المتحدة تتفاجأ بين الحين والآخر، بتدخل مباشر سواء على مســتوى الدعم اللوجيستي مثل حالة روســيا، أو الدعم المالي المفترض من طرف بعض دول الخليج. ومــن الدول التي شــهدت تمويلا أجنبيــا، أو من عصابات المخــدرات لحملات انتخابية، مــا يجري في دول أمريكا اللاتينية. ويكون القضاء دائما الموعد.

ويبدو أن هذا ما يحصل مع الرئيس الفرنســي الســابق ســاركوزي المثير للجدل. وبدأت الحكاية بتصريح لســيف الإسلام القذافي خلال فبراير/شباط 2011 بقوله «ساركوزي يشــن الحرب علينا لكي يخفي دلائــل تمويلنا للانتخابات الرئاســية التــي أوصلته إلى الرئاســة»، في إشــارة إلى انتخابات 2007. واعتبرت وسائل الإعلام تلك التصريحات صبيانية، وردّ فعل على تورط فرنســا فــي الإطاحة بنظام معمر القذافي. وأخذت جريدة «مديابار» المشــعل وبدأت في التحقيــق، وقدّمت معطيات خلقت المفاجأة في فرنســا، فما كان من قضاء مســؤول يقوم على حماية البلاد من الفســاد ســوى بدء التحقيــق، وهــو التحقيق الذي دام ســنوات إلى غاية بداية الأســبوع الماضي، عندما صــدر قرار قضاة التحقيق ويقول «ارتباط ســاركوزي بعصابــة إجرامية»، وذلك في طريقة الحصول علــى المال الليبي، لتمويل الحملة الانتخابيـ­ـة، وإخفاء ذلك على مصلحــة الضرائب ومخالفة القوانــن. لا يمكن تفســير قــرار باريس شــن الحرب ضد نظام معمــر القذافي، بإخفاء جريمة تمويــل النظام الليبي للانتخابــ­ات الفرنســية، بل توجــد عوامل أخــرى قوية واســتراتي­جية، وهي مصالح فرنســا في القارة الافريقية، خاصة ما يعــرف بافريقيا الفرنكفوني­ة، لاســيما بعدما فكّر الرئيس الليبي في إصدار عملة افريقية ضمن حلمه بافريقيا موحدة. وكانــت باريس تدرك اســتهداف القذافي لافريقيا الفرنكفوني­ــة الفقيرة، وليــس افريقيا الأنكلوسكس­ــونية المرتبطــة ببريطانيا، فــي إطــار الكومنولث التي تشــهد انتعاشا، فكان التحرك العسكري السريع باستغلال الربيع العربي.

من خــال هــذا التطــور، توجيــه الاتهام رســميا إلى ســاركوزي بتمويل حملته الانتخابية مــن أموال خارجية، وفي هذه الحالة، الليبية، نقف عند خلاصتين، وهما:

*فــي المقــام الأول، وصول رئيــس دولــة ديمقراطية الى الرئاســة بأمــوال غير شــرعية، مصدرهــا نظام غير ديمقراطي، النظام الليبي المعادي تاريخيا للغرب. وأخلاقيا، تعد انتخابــات ناقصة. ومــن باب الإنصــاف، الظاهرة لا تقتصر فقط على ســاركوزي بل هناك شــبهات حول كل من الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديســتان، والراحل جاك شــيراك، بينما هناك شــبهات لمؤسســات دولية لما يسمى «الإستبلشــ­منت المالي الدولي» بالوقوف بطريقة أو أخرى وراء تمويــل جزء مــن حملة إيمانويل ماكــرون. ولا توجد شــبهات قوية حول الرئيس الاشــتراك­ي الراحل فرانسوا ميتران، والســابق فرانســوا أولاند، لأن غالبية رؤســاء مستعمرات فرنسا السابقين لا يحبذون رئيسا اشتراكيا.

*في المقام الثاني، اعتاد السياســيو­ن تقديم حكايات في مذكراتهم، تبرزهم آية في الشــفافية ومثــالا في الإخلاص الوطني وخدمة الصالــح العام. وعادة مــا يوجد اختلاف حول مذكرات سياســيين مازالوا على قيــد الحياة، خاصة أن ظاهرة المذكرات الشــخصية لرؤساء الدول والحكومات والــوزراء، بل وقــادة الجيش ظاهرة منتشــرة في الغرب وليس فــي باقي العالم، خاصــة في العالــم العربي. وهي ظاهرة إيجابية، لأنها تســاعد المؤرخ والإعلامي والسياسي على فهم قضايا كثيرة. ويحدث، فــي الغالب، أن تثير جدلا واختلافا، ويمكن بسهولة، ســواء بالاعتماد على شهود أو وثائق المقارنة والاســتقص­اء، معرفــة مصداقية المعطيات. وإذا تعلق الأمر بمذكرات مســؤول عربي، لاســيما إذا كان في السلطة، فيستحســن عدم قراءتها. وقد قدم ساركوزي في مذكراته «زمن العواصف» تقييما لزعماء شــمال افريقيا وقادة آخرين، ثم كشــف عن وقائع كثيــرة، ولكنه لم يقدم شيئا جوهريا، ولم يكشــف عن حقائق رئيسية وهي: كيف حصل على المال من القذافي لتمويل الحملة الانتخابية، التي أوصلته الى رئاســة بلد عريق في الديمقراطي­ة مثل فرنسا. لقد اكتفى بصورة غير واقعية عن القذافي، الغريب الأطوار، الذي نجح في محاولة زعزعة النفوذ الفرنســي في افريقيا، بل أفسد من الناحية المالية، سياسيا بلغ الى الرئاسة بفضل أموال طرابلس.

فــي غضون ذلك، كانــت الصحافة الحرة والمســتقل­ة قد قامت بدورهــا، فقد ألف صحافيان من جريــدة «ميديابار» هما فابريس أرفي وكارل لاسك كتابا سنة 2017 بعنوان «مع تهاني القائد» يكشف بدقة، وبعد ست سنوات من التحقيق، تمويل القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية. والآن، سيتكلف القضاء الفرنسي بتصحيح مذكرات ساركوزي، وسيضيف إليهــا فصــا مهما للغايــة، وربمــا الأبرز في مســيرة هذا السياسي: القذافي موّل الحملة الانتخابية، أي بفضل أموال حاكم كان يصنف بالديكتاتو­ر وصل سياسي الى رئاسة بلد ديمقراطي. وقبل القضاء، إنها مفارقات الزمن العجيب.

بفضل أموال حاكم كان يصنف بالديكتاتو­ر وصل سياسي إلى رئاسة بلد ديمقراطي... إنها مفارقات الزمن العجيب

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom