Al-Quds Al-Arabi

الصدمة السودانية: لماذا لم تلق مساعي التطبيع مقاومة؟

- *كاتب سوداني

رغــم توظيفاتهــ­ا الاقتصاديـ­ـة، فإن جوهــر «عقيدة الصدمة» هو بالأســاس سيكولوجي، وملخصه أن الإنسان الذي يتعرض لصدمــات، أو يوضع في ظروف اســتثنائي­ة يقبل ما لا يقبله عادة في الوضع الطبيعي. جوهر النظريــة مبني على العبــث بالوعي، عبر تعريض الإنســان لصدمة فعلية على طريقة الصعــق الكهربائي، أو إلى درجات أخرى من التعذيب النفسي والجسدي، الذي يجعله لا يستطيع التمييز بين الثوابت والمتغيرات، أو الأشياء التي كانت تفصله عنها حدوده الأخلاقية، ليمكن بهذا إقناعه ببساطة، بما كان لا يستسيغه.

إذا كانت الصدمــات الكهربائية قيد التجريــب، منذ عقود خلت، على عــدد من المرضى والمعتقلين لإثبــات فعاليتها، فإن الصدمة الاقتصادية، التي آمن بها أســتاذ الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان، كانت في ظنه أقــرب إلى النجاح، وما يزال تلاميذه يؤمنون بنجاعتها، مستشــهدين بما حدث من موافقة الشعب الأمريكي على سلب حريته، والسماح بالتجسس عليه وتقييد حركته عقب صدمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

«رأســمالية الكوارث» هو المجال الذي يربط بين علم النفس

وعلم الاقتصاد، ليفترض أنه، ومثلمــا كان المريض أو المعتقل مستعداً لقبول أي شيء حتى ينجو من التعذيب، فإن الشعوب كذلك، إذا تعرضت لقدر من الضغط، فإنها سوف تقبل بما يقدم إليهــا من دون أي قيود أو اعتــراض. الصدمة الاقتصادية هي التعبير الأدق عن هذه المرحلة التي يعيشــها السودان، فليس الأمر مجرد تدهور أو تراجع اقتصادي، ولكنه صدمة قاســية ومفاجئة. على ســبيل المثال انتقل الناس خلال عامين فقط ما بــن 2018 إلى 2020 من مرحلة توفر رغيف الخبز ووجوده في متناول اليد، لدرجة تحوله لوسيلة ســهلة للتصدق بالنسبة للطبقات المتوســطة، بعد تفعيل مبدأ )إشتر لك ولغيرك( الذي كان يشــتري الناس بموجبه أكياس خبز إضافية، يضعونها عنــد أصحاب المخابز أو على أبوابهــم للمحتاجين، إلى مرحلة تضاعف سعر الرغيف لعشــر مرات أو أكثر، مع عدم توفره إلا بشــق الأنفس، وهو ما تكرر مع الوقود وغاز الطبخ والأدوية ومعظم السلع الأساسية الأخرى. بالتزامن مع تزايد التضخم، وتضاعف ســعر الدولار مقابل الجنيه بشــكل غير مســبوق، اكتملــت الصدمة بكشــف الحكومة عن عزمها رفــع الدعم عن الســلع الأساســية والخدمات. هذه الخلفية مهمة، وبدونها لا يمكن للمرء أن يستوعب الاســتقبا­ل الفاتر لمسارات التطبيع، أو لمــاذا مرت اللقاءات المتتالية والأجــواء المفتوحة مع الكيان من دون ردود فعل لائقة؟ قد تكــون النقطة الأخيرة مثار جدل ومغالطة، فهنــاك الكثيرون ممن يودون الاحتفاظ في أذهانهم بالخرطــوم، عاصمة لللاءات الثلاثة، ومركــزا للمقاومة، وقد يستشــهد أولئك بالوقفات الاحتجاجية والخطب المســجدية وفتوى المجمع الفقهي.

بالتأكيــد فإن الأمر لم يمــض من دون اعتراضــات أقلقت السلطة، لدرجة مضيها نحو اعتقال عدد من المؤثرين، وملاحقة التظاهرات التي تم تهميشــها إعلاميــاً، ووصفها بقليلة العدد وبأنها لا تضم ســوى فوضويين مدفوعين من النظام السابق. علــى الرغم من ذلك فإني أزعم أن ردود الأفعال الشــعبية منذ ســريان نبأ اللقاء الثنائي المباشــر الأول بين قيادات البلدين ظلت باهتة، والأغرب هو دخول بعض الشخصيات السياسية والدينية في نوبات من التبرير، والحديث عن المصالح العليا،

وعن التطبيع كفرصة. لا شك في أن الحكومة الانتقالية ترددت في إعلان نيتها بدء علاقات مع ما كانت تعتبر منذ إنشائها كياناً غاصباً، وبلا شــرعية، وربما لولا فضح الجانب الإســرائي­لي للقاء، لاعتبارات خاصة به، لظل الأمر قيد الكتمان. ردة الفعل الشــعبية الباهتة هذه كانت مفاجئة للقيادة السياسية، التي بــادر مكونها المدني للتنصــل عن المســؤولي­ة، اتقاء للغضب الجماهيري المتوقع، قبل أن يؤكد رئيس مجلس الســيادة عبد الفتاح البرهان أن الخطوة كانت بعلم رئيس الوزراء.

رفض المكون المدني، ذو الغالبية اليسارية، بدا أقرب للتمنع، ومحاولة تســجيل موقف مــن كونه رفضاً صارمــاً، في حين أكد مقربون من الســلطة أن اعتراضهم يتركــز على نقطة أخذ العســكريي­ن لزمام المبادرة، التي يجــب ان تكون بيد المدنيين. على مســتوى «الحاضنة الشــعبية» للحكومة اتفق كثير من الناشطين على أن التناول العقدي للقضية الفلسطينية هو من ميراث النظام القديم، الذي تجب القطيعة معه، في حين اختار آخرون مبررات مــن قبيل الحديث عن خيانة الفلســطين­يين، وبيعهم أراضيهــم، أو الزعم بأن الإســرائي­ليين بعيدون عنا، ولم يضرونا بشــيء، أو الاستشهاد الغريب بصلح الحديبية، أو بــأن النبي )صلى الله عليه وســلم( مــات ودرعه مرهونة عند يهودي، وهــي الأمثلة التي ضجت بها وســائل التواصل الاجتماعي. حقيقة أخرى وهــي أن رفض التطبيع ليس جزءاً من شــعارات التظاهرة الكبرى المزمع خروجها يوم، الأربعاء، رغم الخبر المســتفز الذي تم تداوله الأسبوع الماضي عما يشبه «أمراً» أمريكياً للحكومة السودانية، بضرورة الإفادة بموقفها النهائي خلال مهلة أربع وعشرين ساعة.

الذي حدث هو سريان فكرة مفادها أن التطبيع هو الطريق الأسرع للبيت الأبيض، وعبره سوف يتحرر السودان من قيود قائمة الإرهاب، ومــن العقوبات، وربما يتم إعفاؤه من الديون أيضاً، وهــي الفكرة التي بدأت في اكتســاب الشــعبية، على مستويات مختلفة، حتى قبل سقوط البشير. الشعب الذي كان واقعاً فعــاً تحت تأثير الأزمة، ثم الصدمة الاقتصادية، لم يكن يستطيع أن ينتبه إلى أن هذه المبررات كانت بلا دليل.

كانت زيارة تل أبيــب من أولى زيارات الرئيس ســلفاكير الخارجية بعــد انفصال جنوب الســودان. بالمنطق ذاته كان الجنوبيــو­ن يظنــون، أن مــا كان يعيق تقدمهــم وارتباطهم بالعالم قد زال بعد نشــوء دولتهم التي ســاهم الإسرائيلي­ون بولادتهــا. مصيــر جنوب الســودان فــي ظل تلــك «العلاقة الاســترات­يجية » معروف، وهو مشــابه لمصير غيره من الدول الافريقية التي اتخــذت التطبيع زلفى للاقتصاد. يشــبه ذلك الفكرة الأخرى التي كانت شائعة إبان الاحتجاجات الشعبية على النظام الســابق، فكان مما يثير حماس الناس، وينسيهم الأســئلة العقلانية عما بعد التغيير، تبشيرهم بأن أوضاعهم ســوف تتغير إلى الأفضل بمجرد إزاحة البشــير. اليوم وبعد عام ونصف العام تفاجأ الجميع، وعلى رأسهم رئيس الوزراء نفســه، الذي عبّر في تصريحــات لـ»الفايننشــ­ال تايم» عن إحباطه مــن التعامل الأمريكي، بأن لا شــيء تغير فعلياً، وأن الســودان ما يزال مكبلاً اقتصادياً. الخطورة تكمن في أن الأمر لا يتوقف عند مســألة التطبيع. «عقيــدة الصدمة» تخبرنا أن بإمكان الشــعب حين يصل إلى مرحلة لا يــكاد يجد فيها قوت يومه، أن يقبل بكل شــيء إذا ما تم إيهامه بأن فيه خلاصاً له. هذا يفسر كيف أصبحت قضايا مثل بيع الموانئ, ومنح الأجانب حق اســتغلال الموارد، ورهــن القرار الوطنــي، وطرح خيار انفصــال الأقاليم، كيف أصبحت كلها أموراً قابلة للمســاومة. أكبر دليل على أن هناك مشوشــون لا يعون ما يقومون به، هو دفاع كثير من أبناء الطبقات المسحوقة عن سياسة رفع الدعم، أملاً في أن تكون مخرجاً لهم وتصديقاً للدعاية الحكومية التي تعد بتقديم التعويض لثمانين في المئة من الأسر السودانية.

صحيــح أن التطبيع لم يكتمل بعد، لكــن في المقابل تصعب الثقة بأن النظام الحالي سينتظر الحكومة المنتخبة حتى تقرر، كما صرح قادته، ولعلنا نكون، ما لم يســتجد طارئ، في طور العــروس التي وافقت مبدئياً لكنها تنتظر مهراً أكبر، كما قال الباحث وضابط الاســتخبا­رات الأمريكي الســابق، المتابع للشأن السوداني كاميرون هدسون.

بإمكان الشعب حين يصل إلى مرحلة لا يكاد يجد فيها قوت يومه، أن يقبل بكل شيء إذا ما تم إيهامه بأن فيه خلاصاً له

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom