Al-Quds Al-Arabi

كولن ويلسون وشهادة الفلسفة الأوكسفورد­ية

- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن

لم يزل الكاتب - الفيلسوف كولن ويلسون حاضراً في المشهد الثقافي العالمي بعدما يزيد عن الســبعة أعــوام على وفاته عام 2013؛ فقد ظهرت بضعة كتــب تتناول حياته وأعماله، منها على سبيل المثال وحسب، كتاب المؤلف كولن ستانلي ‪Colin Stanley‬ المعنون «طفرة تطوّرية: كولن ويلســون والسايكولو­جيا» An ‪Colin Wilson on Psychology‬ : ‪Evolutiona­ry Leap‬ عــام 2018، وكذلك كتاب المؤلف غاري لاكمان ‪Gary Lachman‬ بعنوان «ما بعد الروبوت: حياة كولن ويلســون وأعماله» ‪Beyond the‬ ‪The Life and Work of Colin Wilson‬ : Robot عام 2016.

ما زلــت أذكر تلك الســنوات التي ظهر فيها كتاب ويلســون «اللامنتمــ­ي»‪The Outsider‬ مترجمــاً إلى العربيــة، بعد وقت قصير من ظهــوره باللغــة الإنكليزية، وقــد تناغمت مفردة )اللامنتمي( حينذاك مــع النزوعات الوجودية التي ســادت العالــم، ومنطقتنا العربيــة كذلك. قرأتُ الكتاب مثل كثيرين ســواي، ثمّ قــرأت لاحقاً كتباً عدة مترجمة إلى العربية للكاتــب ذاته وكان وقعها محايداً في نفســي، كمثل حــال كثرة من الكتب، وحســبتُ أنّ أمــر الاهتمام الجماهيــر­ي المفرط بكتابات ويلســون إنّما مــردّه للتقليعــا­ت والموضات، التي أعلت شــأن الكتابات الوجودية، وكلّ مــا يمتّ بصلةٍ لمظاهر التمرّد الوجودي، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وظننت أنّ أمر ويلســون شــبيه بأمر فرقة «البيتلز» مثلاً، ثمّ جاءت حقبة الســبعيني­ات من القرن العشرين، وخفت ذكر ويلســون، مثلمــا خَفَت صيتُ معظــم التوجهات الوجودية على صعيد الفكر والفلسفة والحياة عامة.

الوجودية الجديدة

كان كولن ويلسون الكاتب الأكثر إشكاليّة في العالم العربي، خاصّــة في حقبــة العقدين الخمســيني والســتيني من القرن العشرين، وثمّة ظاهرةٌ رافقت هذه الإشكالية وَهي، أنّ ويلسون نالــه الإجحاف كثيراً في عالمنا العربــي - بصرف النظر عن كلّ التهويل الإعلامي وتهافت دور النشــر على طبــع كتبه الأولى، لدوافــع تجاريّة محضة - بســبب الرطانة و الأحــكام المجانية والســريعة التي اعتاد الكتّــاب إطلاقها علــى أعماله وإضفاء سمة الشــاب المعجزة ذي القدرات الخارقة عليْهِ، رغم أنّ أعماله تتفاوت في مســتوياته­ا، بســبب التنوع الواسع للموضوعات التي يشــتغل عليها، وبســبب لجوء ويلســون إلــى قناعاتِهِ الميتافيزي­قيّة، ومحاولة خلع سمة علمية عليها وعدّها مواضعاتٍ معرفية شاملة، في سياقٍ اعتبرَهُ كثيرٌ من المختصين الثقات، غير واف بمعايير الرصانــة، لكن يبقى تأكيد ويلســون على الدور الحاسم للعقل الكاشف، والرؤية الملهمة هو الإنجاز الأهمّ له في معظــم كتاباته، إلى جانب إطلاقه لفكــرة الوجودية الجديدة، الباعثة على التفاؤل، والنقيضة للوجوديّة السارتريّة العدميّة. ربّما كان زجّ اســم ويلســون طرفاً في الحروب الأيديولوج­ية، التي كانت مستعرة في عالمنا العربي، إبان الحقبة الستينية من القرن العشرين، سبباً في حشره مع خانة الطوباويين الثوريّين، أو الفوضويّين وإبعاد صفة العقل المدقــق والباحث الجاد عنه، وتحويله إلى محض أيقونة شــعبيّة تلوكها الألسن بكلام رميم مختلف عمّا كان يهدف إليه ويلسون في أصل دافعه للكتابة.

عاش كولن ويلســون حيــاة درامية مثيرة، قبــل أن يُعرَفَ ككاتــب، وهــو ذاته يفضّــل وصفه بأنــه كاتب - فيلســوف، وقــد كتب في موضوعات واســعة الطيــف: الرواية، الجريمة، الباراســا­يكولوجي، التصــوف، تأريخ الأفــكار، ويفضلُ على الــدوام أن تدعــى فلســفته «الوجوديّة الجديــدة»‪The New‬ Existentia­lism . ذاعتْ شــهرةُ ويلســون في أوساط الشباب، خاصة فــي العالميْن الغربيّ والشــرقيّ في خمســينيات القرن العشــرين، وحافظت تلك الشّــهرةُ على زخمها - وإن باندفاعةٍ أبطــأ - إبّان ثورات الشــباب العنيفة في أواخر الســتينيا­ت، التي تمازجت فيها الليبرالية الجنســية، مع الدعوة إلى تجربة عقاقيــر صانعة لعوالم مُتخيلة )وأهمُّهــا عقار إل إس دي LSD والِمسْــكالين( ثم خفتت تلك الحركات في الحقب اللاحقة، وربّما كان التوصيفُ القســري الّذي أسبِغَ على ويلسون، كوْنه واحداً من أهمّ وجوه جماعة )الشّــباب الغاضب ‪Angry Young Men‬ ) عاملاً اعتباطيّاً ســاهمَ في توكيد السمة الوجودية الشائعة عن كتابات ويلسون وَأبعدَ القرّاء عن معاينة أفكاره الأكثر جدّيّة.

يرى بعض النقاد البارزين - خاصة الإنكليز منهم - في كولن ويلسون شخصية شعبوية تجيد التعليق على الأفكار المطروحة، أكثر من إنتاج أفكار تتسم بالجدِّة والأصالة، حتّى ذهبَ بعضهم إلى وصفه بالأنثولوج­يّ الماهر، لكن رغم كل شــيء يبقى الرجل ذا مقروئية عالية وتلفتُ غــزارة نتاجه وتنوّع موضوعاته نظر مؤيديه ومُنتقديه معاً.

نشــر كولن ويلسون ســيرته الذاتية الأولى بعنوان «رحلة نحو البداية: سيرة ذاتية ذهنية» ‪A Voyage to the Beginning‬ ‪Intellectu­al Autobiogra­phy‬ : فــي أواخــر ســتينيات القرن الماضي، لكن ثمّة فروق بيّنة بين ســيرته الأولى وسيرته الثّانية الموسّعة المعنونة «حُلُمُ غايةٍ مـــا» ‪Dreaming to Some Purpose‬ ، إذ جاءت السيرة الأولى مثقلة بتفاصيل كثيرة، تخصّ علاقاته مع الآخرين، تماشــياً مع اندفاعة الشــباب المتأخر، التي كانت تســتعرُ في روح الكاتب، أمّا ســيرته الثانية فقــد جاءت أكثر تركيزاً على فضاء الأفكار، التي شكلت شخصية الكاتب واستمدّ منها ينبوع إلهامه على مدى حياته الحافلة باشــتغالا­ت معرفية كثيرة، وَمنذ أن غادرَنا الروائيُّ والفيلســو­ف الإشــكاليّ أواخر عام 2013 طفت على السطح كتاباتٌ كثيرة تؤبّن الرجل بطريقة محايدة، وبتقريضٍ بروتوكوليّ لأعمالــه، بدون الانغماس في اشتغالات نقديّة كثيرة، باستثناء قلّة من الإشارات إلى أعماله، كتبها صحافيون، أو مراجعو كتب، لكنّ بعضا من هذه الدراسات كتبهــا فلاســفة مرموقون لهــم مكانتهم في البيئــة الأكاديمية البريطانية، ما يمنــح هذه الكتابات مقبوليّة معقولة ويشــجّع على قراءتها من قبلِ مُحبّي الكاتب الراحل أو سواهم، وكان هذا الســبب بحد ذاته - كما أرى - كافيــاّ ودافعاً لترجمة أعمال من هذا النوع، بعيداً عن الكتابات المتعجلة، أو تلك التي تحشر كولن ويلسون في خانة الوجودية اليساريّة.

بعد وفاة ويلسون عام 2013 قادتني ملابساتٌ غريبة لقراءة سيرته الذاتية المنشــورة عام 2004 تحت عنوان «حلمُ غايةٍ ما» فوجدتني أمام عالَمٍ غريب وفريد تماماً، وفي اللحظة التي أتممتُ فيها قــراءة الكتاب عزمتُ على الشــروع بترجمته إلى العربية، وانكببتُ طيلة ســتة شــهور كاملة )وقد تزيد قليلاً( على العمل الجاد، حتى أكملتُ العمل وظهر عن دار المدى العراقية عام 2015 ولأنني أعرف الملابســا­ت التي تحيط بشــخصية ويلسون، فقد أفردتُ القســم الأول من الكتاب لفصول عــدّة أردتُ من خلالها إلقــاء ضوء جديد على مناطــق معتمة من حياة هذا الكاتب ـ الفيلســوف، الذي اقترن ذكره في الذاكرة العربية مع كتاب «اللامنتمي» وحســب، وفات القرّاءَ العربَ الكثيرُ مــن مؤلفاته الأعظم أهمية في حقل الفلسفة والسايكولو­جيا والأدب والرواية.

السيرة الذاتية

تعلّمتُ درســاً ثميناً وفريداً مــن نوعه عندما عملتُ علــى ترجمتي لكتــاب «حلــمُ غاية ما»: الســيرة الذاتيــة للكاتب - الفيلســوف كولن ويلســون، هــو أن يرتكــن المــرء إلــى ذائقته الشــخصية، بعــد أن ينزّههــا من كل شــوائب الانحيــاز­ات المســبقة، ولا ينجــرف فــي تيّار التعميمات التي يطلقها بعض النقاد - ويستوي في ذلك النقادُ العربُ والأجانب - وأن يقرأ العمل الذي بين يديه وكأنه وديعة اســتودعها الكاتب لديه، فلا يجــور عليها بأفكار سائدة صارت بمرتبة اليقين، الذي لا يطاله الشك، حتى لو كانت هذه الأفكار تخصّ أساتذة جامعيين لهم اليد الطولى في تشكيل الرأي الثقافي العام الســائد في دوائر الإنتلجنسي­ا العليا، وهذا الأمر هــو بالتحديد ما حصل مع كولن ويلســون، عندما ناصبه النقّــاد البريطانيو­ن العداء، لأنه لم ينتمِ إلى الحلقات العليا من الدوائــر الأكاديمية البريطانية، ورأوا فيــه خروجاً على تقاليد الإنتلجنسي­ا البريطانية. وأرى أن على القارئ الشغوف والمثقف الجاد، تحصــن روحه وعقله بالمــروءة وكرم الــروح وتقدير السمات الشــخصية لأي كاتب في مجاهدته وصبره وانطلاقه في مضمار العمل المثمر وعدم التخاذل والانكسار إزاء النقودات القاسية.

هناك الكثيرُ ممّا يمكن أن يقالَ في حقّ كولن ويلســون، لكن تبقى مزيّته الفضلى، هي تأسيســه لوجوديــة جديدة متدفقة بالتفاؤل والنظرة البطولية للحيــاة، التي تجاوزت الوجودية الســارتري­ة الســوداوي­ة المتجهمة الدافعة نحو العدمية. تميل طروحات ويلســون لأن تكون مباشــرة واضحة، ولا تعمد إلى مقاربــات التفافية على صعيد الفهم، أو علــى صعيد اللغة، وقد أكّد ويلسون منذ بداياته مع نشــر كتاب «اللامنتمي» عام 1956 وكذلك في ســيرته الذاتية على بضعة مفاهيم أساسية، يتقدمها المفهوم التالي: إن الروح التشاؤمية التي أشاعها الرومانتيك­يون وحركتهم الطليعية منذ نشر أعمال شــيللي المبكّرة، لم تكن في حقيقتها سوى موقف كيفي اختاره الرومانتيك­يون، ولم يُفرَض عليهم فرضاً، وأن النزعة التشاؤمية المقترنة بهم ليست أكثر من إدمان عقلي اســتمرأوا تبعاته، ولم يبذلوا جهداً منظماً وصارماً

لقلــب موازينــه وســطوته على حياتهم، وعلى أساس هذا المفهوم يكون ويلســون قد أعاد التذكير بالفكــرة الأساســية في فلســفة هوســرل الظاهراتيـ­ـة ودعمها - وأعني بها فكــرة القصدية intentiona­lity القائمة على أســاس أن الفعاليات الإنســاني­ة هي بطبيعتها مقصودة، ومُوجّهة نحو غايةٍ ما، وأن العقل البشري يكون فعالاً ويعمل بانضباط صارم ومدهش، متى ما رُسِمت أمامه خريطة واضحة المعالم، للأهداف المتوخــاة، أما بغير هذا فستســتحيل القــدرة العقلية الجبارة خواءً، يدفع بصاحبه إلى الضجر المســتديم الممتد بلا نهاية. إن هــذه الفكرة وحدها تكفي لرفع أكثر مــن قبعة كتلويحة احترام يستحقها ويلسون بجدارة كاملة، خاصة أن هذه الفكرة لم تأتِ من مجرد التفكّر السلبي، وســط حياة الدعة، والاكتفاء المادي، بل جاءت بعد كفاح مرير وشــاق، تعلّم منهــا الكاتب أن تحديد غايةٍ ما للمرء في الحياة، ومن ثم العمل الجاد والمنظّم من أجلها، هي الفعالية الأولى التي تستحق عبء الكفاح المشرّف من أجلها، وقد أشــاد المنظّر الثقافــي ذائع الصيت تيــري إيغلتون Terry Eagleton وأجاد إجــادة فائقة في توصيف هــذا الحال، عندما كتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية مقالة بعنوان )الكاتبُ والكتاب اللذان غيّرا حياتي( بتأريخ 4 أغســطس/آب 2013 جاء فيها: إن الإحســاس بالكآبة المتفشية هو ما فتنني فوق كل شيء بلامنتمي ويلســون: ثمة خطأ شــائع في التصــور بأن النزعة التشــاؤمي­ة أكثر نضجاً من البهجة والانشــرا­ح، ويبدو المزاج الســوداوي الكئيب )الميلانخول­يا( الســمة العصرية السائدة في القرن العشــرين، حيثُ يعدُّ أي توقّع مبشّــر بالأمل ساذجاً، وبالنســبة إلى مراهق مثلي يخطو خطاه المبكــرة نحو البلوغ فإن الإحســاس الميتافيزي­قي بانعدام المعنــى كان بمثابة الهدية المثلى لــه. يخلص كتاب اللامنتمــ­ي - وبطريقة غير منتظرة أو متوقعة - إلى الاســتنتا­ج بأن الفلسفة الغربية مبتلاة بمغالطة تشــاؤمية، وعلى هذا الأســاس، اتخذ الكتاب خطوة ذكية في اتجاه الانفكاك من المزاج العدمي الســائد في تلك الفلسفة، وقد حاولتُ من جانبــي - وعلى نحوٍ مثير للدهشــة - تنحية ذلك المنحى الإيجابي جانباً، خشية أن يقوّض تلذّذي بما كنتُ أعانيه من اكتئاب مزعوم. أذكرُ في كتــاب «حلم غاية ما» مقطعاً تنصح فيه الروائية - الفيلسوفة آيريس مردوخ ويلسون بأن لا يتأخر عن دراسة الفلسفة في جامعة أوكسفورد، لكنه لم يفعل. أتساءلُ دوماً: أليس كولن ويلسون أعلى شأناً وأرفع ثقافة من كثيرين - كاتبات وكتّاباً - من أصحاب البيســت سيلر Bestseller­s الذين اجتنوا ملايين الــدولارا­ت لقاء بضعة كتــب عرفوا عبرها كيف يتســلّلون بخفة إلى الدهاليز الخفية لذائقة القارئ، عبر ملاعبة وتنشيط منطقة الخيال الفانتازية المتصحرة لدى قراء عصرنا؟ وهل يمتلك ســتيفن كينــغ أو دان براون أو جَــي. كي. رولينغ عشر معشار ثقافة كولن ويلسون وذخيرته الفلسفية وخبراته العلمية؟ كم تمنيتُ لو أنّ ويلســون عمــل بالنصيحة المخلصة لمردوخ وحصل بالفعل على شــهادة الفلســفة الأوكســفو­ردية العتيدة، فهل كان بعدها ســينال ذلك الكمّ الهائل من التقريعات غير المنصفة؟ أم كان ســيُعدّ لولباً ثميناً في ماكنة الإنتلجنسـ­ـيا الثقافيــة البريطانية؟ أم ثمة ما هو خفــي قضى بأن يبقى كولن ويلسون ماكثاً في دائرة التعتيم والتجاهل، وهو يكافحُ في تدبّر معيشته اليومية ومقتضيات إدامتها؟

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom