Al-Quds Al-Arabi

نابوليون وغوته

- ٭ كاتب مغربي

رشيد سكري٭

في الأدب أحداثٌ ووقائعُ يســجلها التاريخ، فالخلــود الــذي يرســو عنده هــذا الحلــم، يظل مشــدودا إلى ظواهــر تتناقلها نصــوص غائبة، تســعى نحــو تجســير حــوار بنــاء بــن القديم والحديث. فمن زاوية التفاعل والانفتاح، يصبح العبــور آمنا بــن عظماء في التاريخ الإنســاني، ويصبــح أيضا ـ أي العبــور ـ ذا مغزى يعجُّ بعبر وقيــم نبيلة، تخــدم تاريــخ الأدب. فمهما حاول النقــد الأيديولوج­ــي الحديــث أن يطمــس هــذه الحقائــق التاريخية، إلا أنها تظل موشــومة في ذاكــرة الأدب، تطفــو بــن الفينــة والأخرى في الساحات الفكرية، وتتلون بمنطق العصر.

في الأدب الغربي، كما هو معروف، مساحات شاسعة ومضيئة من قول وحرية وإبداع، ينتقل عبرهــا الأديــب نحــو العالميــة والخلــود بفعــل الانتشــار الواسع للترجمة والطباعة، والمنافسة الشــديدة بين دور الطبع والنشــر. فــكان الأدب الألماني، مــن هيغل إلــى حدود برتولــد بريخت مــرورا بهولدرلــن، قد غيّــر مجــرى التاريخ في أوروبا. فما عســى لشــاعر ألمانيا العظيم يوهان فون غوته، إلا أن ينظــر إلى ما يخلده في الأدب. فعبــر مصفاة المســرح، باعتبــاره أبــي الفنون، اســتطاع غوتــه أن يكــون مســرحيا وشــاعرا وفيلســوفا، وتمكن من أن يخلق لنفسه هالة من جنــون العظمة؛ أســوة بأبي الطيــب المتنبي في الأدب العربي، الذي اختار المنفى بقوله الشــهير من الوافر: أنــا تــرب النــوى ورب القوافي وسَــمَّام العدا وغيظ الحســود أنــا مــن أمــة تـــداركها اللــه غريــب كصالــح فــي ثمــود ففــي كتــاب « مــن حياتــي ـ شــعر وحقيقة « لغوتــه، كان يتنبــأ بلقــاء عظيــم ســيجمعه بالإمبراطـ­ـور الفرنســي نابوليــون بونابــرت. وبفعل تأملاته الفلســفية الواعدة تمكن شاعرنا مــن أن يســتحضر، علــى ســتار المســرح، كل العظماء والمشــاهي­ر في المســرح وغيــره، الذين مروا في التاريخ الإنســاني، وبصموا تجربتهم بالروعة الاســتثنا­ئية. فكيف تمكن شكسبير من العبور الآمن نحو الثقافة العالمية؟

اســتدعي هذا الســؤال من الروائي الفرنسي ذي الأصول التشــيكية ميلان كونديرا، أن يقلب أوجاع الإليزيه، عندما تناول فاليري جيســكار ديســتان، مع الزبالين، أول فطــور له في القصر الرئاســي الفرنســي. أفي ذلك حكمة تـُــحسب لــأدب أم للسياســة؟ وإلــى أي حــد اســتطاع جيســكار ديســتان أن يحصل على جواز ســفر داخــل الثقافــة الفرنســية؟ إن هــذا الالتفــاف حول البســطاء، من الشــعب الفرنسي، استغله خصومه السياســيي­ن. وعلى ضــوء ذلك، باتوا يقلبون أوجاع الســلطة السياســية في فرنسا؛ إلى أن تمت الإطاحة به في بداية الثمانينيا­ت من القرن الماضي. وعقب ذلك، وبفعل ســنة التطور والإبــدال، الذي لحــق المجتمع الفرنســي، التف ملايــن من الفرنســيي­ن حول فرانســوا ميتران، بعدما ارتقى سلما واسعا كما فعل شكسبير.

لــم يكن لقاء يوهــان فون غوتــه بالإمبراطو­ر الفرنســي نابوليــون بونابــرت، فــي العشــرية الأولى من القرن التاســع عشــر، مجرد اعتراف مبدئي بالدور الذي يقوم به الشــاعر في نســيج المجتمــع، وإنما هــو تثبيت خريطــة جديدة بات عليها العالم بعد الحملة النابوليون­ية، خصوصا عندما أعاد الإمبراطور­ية الروســية إلى حجمها الطبيعــي، وإلــى ســابق عهدهــا فــي مجاهــل القوقــاز. غيــر أن طمــوح نابوليــون، وعطشــه الشــديد إلــى ســفك دمــاء الأبرياء في الشــرق العربــي، لــم يقــف عند هــذا الحــد، بــل أراد أن يخلد إنجازاته في تاريخ الإنسانية جمعـــــــ­اء؛ لــذا كان لقاء نابوليون وغوته لقاء بين شـــــاعر وعسكري.

في وقــوف نابوليــون بونابــرت، إلى جانب مصوريــه، كما وصفه الروائي الفرنســي ميلان كونديــرا، احترام وإجلال لعظمة هذا الشــاعر. فوضــع بونابــرت يــده اليمنــى تحت ســترته، وراحته على معدته، وفي هذه الوضعية رســالة ضمنية ومشفرة، يخاطب من خلالها المصورين بأن يفرقعــوا، بشــكل مكثــف، آلات تصويرهم حتــى يأخــذوا صــورا تســتحق أن تنشــر على الصفحة الأولى من الجرائد. إن جنوح نابوليون نحو الشاعر، هو جنوح نحو الخلود في الذاكرة والتاريخ؛ لأن القول الشعري له جاذبية خاصة، تخترق كل الأزمنة والأمكنة.

ففي ثنايا هذا الحديث الشائق، الذي دار بين بونابرت وغوته، جعلا معا من المســرح مدرســة الشــعب، ولأن العســكري كان من المولعين بأبي الفنون، خصوصا مسرحيات فولتير وشكسبير حــول الإمبراطور­يــة الرومانية، التــي كان يقبل عليهــا بنهــم وشــغف، اســتطاع نابوليــون أن يحمل الفشــل الذريع للمجتمع إلى الشاعر، كما هو الشــأن بالنســبة لمســرحية «مــوت قيصر» لفولتير. وعلى غرار ذلك، كان غوته شديد الحذر من هذا العسكري الطموح، الذي تفتحت شهيته إلــى ضم العديد مــن البلدان، شــرقا وغربا، إلى امبراطوريت­ه. فمن بين النقاد من يرون أن الحملة النابوليون­ية على مصر كانت بدافع تأثره البالغ برواية غوته الشــهيرة «آلام الشــاب فرتر». فلا مجال إذن إلى تصور تلك العلاقة الســديمية بين المثقف والسياســي؛ التي مازالــت تلقي بظلالها على المشهد السياســي ما بعد الحملة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom