Al-Quds Al-Arabi

ديوان «قصيدة متأخرة إلى فاطمة»: تفاعل العاطفي والاحتجاجي

-

قــدم منصف الصالحي في هذا العمل الذي يشــكل باكورة أعماله، مجموعة مــن القصائد متفاوتة الطول، لعل أطولها القصيدة التي حملت عنوان المجموعة «قصيدة متأخرة إلى فاطمة» التي وردت في عشرات الصفحات.

تخيــم شــخصية فاطمة على هذا العمــل، فهي تحوز مكانــة مهمة في بهوه، تتصــدر العنوان الرئيــس والعناوين الداخلية وتتمحــور حولها فاتحة الكتاب المقتضبة. لكنها تظل ســؤالا مؤرقا للقــارئ: «من تكون فاطمة؟».. أي فاطمة هذه؟ هذه التي يخرجها الشــاعر من العالم اليومــي والعادي، ليبث فيها شجن الروح والتاريخ:

«أقفــو خطاها حزينــا كطفل يتيم/وأذكرهــا لحقــول القمــح والزيتون/فتحملنــي لفاطمــة مراكــب الشــوق/وتهدهدني الأغاني القديمة والأساطير».

يــراود هــذا الســؤال القارئ لكنه لن يســتقر على أمر ففاطمة متنقلــة ومتلونة من صــورة إلى أخرى. تتقلد صور الحبيبة والأم والبنــت والوطــن، ويشــحنها الشــاعر بالكثيــر مــن الرمزيــة. جمــع فيهــا الكثيــر مــن الصور الاســتعار­ية، فهو حينــا ينحتها من صورة الأم، وحينا من صورة الحبيبة، وحينا من صورة البلاد وغير ذلك مــن الصور التي نحت منهــا صور هــذه المــرأة الخيال. فهي شخصية ورقية متخيلة

تعمــد الشــاعر تلوينهــا وتقليبهــا، كــي تكــون جامعــة وحاملــة للكثير من الأبعاد. وهو ما أشــار إليه فــي تقديم موجز.. «فاطمة شخصية مركبة متعددة الأبعاد، فهي الزوجة والحبيبة، وحينــا هــي الأم، وحينــا آخــر هــي الوطــن. كل ذلك يــدور في ســياق تاريخي ومكاني هو الآن وهنا». فتخضــع فاطمة لمختلف الأغــراض الشــعرية، مــن غــزل ورثاء وشكوى حنين، وغير ذلك من الأغراض، وتتقمص مختلف الأدوار.

يعيدنــا الصالحــي بهذه التجربــة الفاطميــة المتخيلة إلى ســؤال كثيرا ما طرح في مدونة الشــعر العربي، حول النســاء اللواتــي يرد ذكرهن في القصائد، وحول فرضية يطرحها البعض، ويعتبر فيها أن لا وجود حقيقي

للكثيــر من النســاء اللواتي تغنــى بهن الشــعراء العرب القدامــى، لطبيعة المجتمــع العربــي القــديم، وأن الأمر مجــرد تخييل. ولعلنــا نضيف تجربة الصالحي إلى هذا الموقف، الذي يعتبر الكثير من نساء الشعر القديم مجرد أطياف، وأن الشاعر العربي قد اخترع نساء لشعره ليحقق نوعا جماليا.

يكتــب الصالحي فاطمــة وقصائدها بلغة شــعرية حديثــة، تفوح منها رائحة الاحتكاك بالقصيدة العربية القديمة، متشــبعة بالموروث الشــعري بمختلــف أغراضــه، تتــردد بينهــا أصــداء الشــعر العربــي القــديم. فكثيــرا مــا ضربــت الصــور الشــعرية في مضــارب القصيدة العتيقــة واحتذتهــا فــي صورها ومصطلحاتهـ­ـا، فنجــد توظيفــا لمكونات الســماء، وهي المكونات التــي تنتمــي إلــى الرومانطيق­ية، وتحيل على ذاكرة عربية نشــدت العلــو والتعالــي، واســتعارت صــور الســماء لترســم حكامهــا وحبيباتهــ­ا، ولتشــبه أحوالهــا مســتدعية الغيوم والأقمار والبدر والنجوم والبرق والسحاب، وغير ذلــك من زينــة الســماء. فــي هذا النهــج يســير منصــف الصالحي في بعــض قصائده مزينــا خياله الشعري بألوان السماء:

«يا حبيبي اســأل الليل/كم هو نجم/ونجم تجلى/سترى قلبي

فــي غفــوة عينيــك /فانوســا تدلى»

ويســتعيد الشــاعر الكثيــر من المناخات الغزلية العربية التقليدية فتبزغ بين قصائده صورة الأطلال وديار الحبيبة:

مــررت بــدارك فشاقني

أن حبي يســح فــي القلب دمعا ولا يستحي وعاجلت أرضا أمرغ وجهي علــى وطء الحبيــب قبــل أن يمحص» ويمتزج الخطاب الغزلي بالخمريات والكأس: كأن ذكراها كأس على الشفاه تعانقا

بعــد الرحيــل

فالتصوير الشــعري علــى حداثته يغترف مــن التصويــر العربــي التقليــدي، ويحــاول التواصل مــع الذاكرة الشــعرية العربية. لكن جريــان هذا العمل الشــعري، وأغلب قصائده على اســتعارة شــخصية فاطمة، التي أشبعها الشــاعر حبا وغزلا ورثاء، وغير ذلــك من المواقف، لــم يقصر هذا العمــل على العاطفــي والوجداني، بــل فتح الشــاعر قنوات علــى السياســي، فحملت بعــض القصائد طابعا سياســيا ولغة احتجاجية على الراهن.. فهــذا العاطفي والوجداني يمتزج بالسياسي،

عرفنــا الحب /لما رأينا البدر/ينســكب فــي جبينك/لينــام كالطفل على ثدييك/عندمــا تبســمين/وأنت تمرين/تنزع الشــوارع لافتــات الأحزاب / وأعلام المنافقين/ ويحييك الأطفال/ والعمال.

لعــل هــذا المقطع يمزج بــن خطابين: خطــاب الغزل والحــب والأمومة، وخطاب سياســي رافــض. تخــرج فاطمة من بعدهــا العاطفــي الأمومي، وهــو بعد فردي، إلــى بعد جماهيري، فتصبح رمزا لــدى الأطفال والعمال وتكتسب حلتها النضالية.

هــذا التنويــع فــي صــورة فاطمــة يصل إلــى توظيــف امــرأة الخطاب الإشهاري:

تصدمني صورتها /فاطمة/امرأة تضحك /تغمزني في هزء/معلقة في علامات الإشهار.

فتصبح الكتابة الشعرية احتجاجا ورفضا للواقع السياسي، وتصويرا لمشهد التأزم والخيبة، وهو ما نلمسه في مواقف كثيرة من هذا الكتاب:

أحزابنــا دكاكين خالية/تعمرهــا الجــرذان والخنافيس/وفكرنا يؤس وأوهام وتزييف/وصراعنا على المناصب/غش وطعن في الظهر وتشويه.

تألــم لأحوال البلــد وكتابة أخرى بخيبة زمن الثــورة... ينحو الصالحي في بعض قصائده إلى السخرية، ولعل القصيدة الفيسبوكية تبدو نموذجا لهذه السخرية من زمن الفيسبوك وانعكاساته على المشهد العام. بلكجتني حبيبتي فقد تخاصمنا بدونما سبب وكم كنت أجاميها بلا عدد بدلتني فسختني طردتني فقد ضحكت مرة واحدة ويسخر الشاعر من أدب الفيسبوك: أهذا شعر أم شعير ينقرونه نقر السردوك كأننا في عرفهم بقر ولعلنا نقول في ختام هذه القراءة الســريعة أن منصف الصالحي جعل مــن فاطمة مشــروعا إبداعيا تخييليا يمارس عليه فن الشــعر ويجري عليه اللعبة الجماليــة، لكنه يقول من خلاله مواقفه ورؤاه ويكتب المشــهد العام وآلامه...

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom