Al-Quds Al-Arabi

حان الوقت لنحتفي بحدوسنا

- ٭ باحث تونسي

قد لا نغامر كثيرا إنْ نادينــا بصوت عالٍ، أنه حان الوقت لتأســيس كوجتو cogito جديــد قوامه «أنا أحدسُ إذن أنــا موجود» ففي الوقــت الذي تربع فيه العقل عرش النظريات والأفكار، أُهمل صوت الجســد وكل ما يحيط به من طقوس المشــاعر والأحاســي­س والحــدوس والأهواء، حتى ذهب فــي اعتقاد البعض أن هذا النــداء الداخلي العميق ليس إلا مجرد هتافات هوجاء، تهفو إلــى التمرد على ســلطة العقل، وبناء نمط جديد من التفكير، والذي زاد رســوخ هذا الوهم، فكــرا واعتقادا ما ذهبــت إليه التصورات الفلســفية والفكريــة عامة، من إعــاء إمبراطوريـ­ـة العقل على حساب نشــوء فكرة الجســد، وقد صادف هذا تجند المقولات الدينية، التي وقفت صدا منيعا في وجه فكرة الإحســاس والحدس والأهواء، لتقحمهــا في مجال الخرافة والجنــون، التي تصل حد الاتهام بالتنبؤ وما شــابه ذلك، على حد اعتقاد البعض، ويأتي هذا الفهم - في العادة - في إطار احتماء بمقولات ميتافيزيقي­ة وماورائية تعطل مســار التفكير والعلم وتعلق قراءة الظواهر إلى حين.

أمام كل هذا يصادف أن يقول لك حدســك إن شيئا ما ســيحدث، وتقول لــه أنت بعد أن ناقضت نفســك - وبصــوت خافت- هذا غير منطقــي ولا يقبله عقل، وتطوي الســاعات والأيام زمنك اليومي ويأتيك خبرُ الحدس أنْ أنت، فتعيد ترتيب الأشــياء داخلك بخجل وتصمت مــرة أخرى مخافــة النقــد، وترضخ لصنم داخلــك ترفض أن تحطمــه، فتعيش إنســانا أحادي الجانب، وفيــك دُرر من الحدس تنتظر من يغوص إلى العمق يســتجلبها. وغير بعيد عنــا كثيرا ما يتصرف البشر بحدوســهم، وقد يصل البعض منهم إلى اعتبار الحدس منهجا حياتيا يســتعمله يوميا، فيقول لك قد حدست أني ســأنجح في مهمة ما، ويخبرك آخر أن له إحساسا بأن شيئا ما سيصير مســتقبلا، غير أن هذا الإيمان بالحدس لــم يرتقِ بعدُ إلــى مصاف الاعتقاد به كقطــب ثنائي يعــادل مهام التفكيــر والتعقل، فما يزال بعضنا يظن بحدسه ظن الســوء، وما يزال ثمة اعتقاد بأننــا لابد ألا نصدق ما تقوله لنا أحاسيســنا وحدوسنا، فإن كانت أبســط تعريفات الحدس تقول إنه شعور فطري لاإرادي ينتاب الإنسان، وهو ضرب من التوقع بحدوث شيء ما، فلماذا نحن مرتبكون كل هذا الارتباك أمام حدوســنا، فللحدس مســاحات من الصــواب أيضا، لكننا نظل في اعتقــادي غير قادرين على فتح عوالمــه واقتحام بواديه. فهــو الغريب غير الملموس، وهو الغائب الحاضر، هو العصي على الفهم بآليات نظر قديمــة مهترئة. «فهل نحن منتهون». قد لا يسعنا اســتيعاب الحدس وفهم كنهه، فهو عصي عن الضبط غير مدرك، لكن لا ســبيل إلى الاستغناء عنه، فهو بوابة أمل حين يغيب الأمل.

فسحة تجول سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي كافية لتجد جلسات حوار حول هذا المفهوم، فتجد من يقدس الحدس وتتعثر بمن ينفره، وهناك من يرى أن الحدس يختلف من شــخص إلى آخر، وقد يصل الأمر إلى تكوين رؤية جندرية للحــدس، تجعل من المؤنث الأقــدر على هذا الضــرب من التمثــات، نظرا لأنهن أكثر قدرة على تمثل الأشــياء بوصفهن مجبولات على الإحســاس والعواطــف، ولهن زاد عاطفي وحســي قادر على أن يلتقط الأشياء قبل حدوثها، ولاسيما في مسائل الحب والعاطفة عموما، وهو ما يُعرف بالحاسة السادسة. في حين يرى البعض أن الذكور أقل حظا في مســائل الحدس نظرا لارتباطهم بتقليــد قديم يُعطي أســبقية واهمة بكونهم أقدر الجنســن على ممارسة التعقل، وهي نظرة ذكورية للأشــياء، تعطي أسبقية للذكر على حساب الأنثى قوامها أن الذكر يفكر والأنثى تحدس، وهو تصور انســحب على كثير من القضايا، كاعتبار المؤنث شريكا فعليا للهذيان، وأنهن «ناقصات عقــل ودين» على حــد اعتبارهم، ويجــب ألا نثق في أدوات تحليلهن للأشــياء، وهذا في اعتقادنا مجانب للصــواب، فالحدس طريقة في التفكيــر تعادل العقل أحيانا ولها شــأن في بلورة الأفكار من حولنا، وليس اعتماده ضربا من هذيان الأنثى -كما يزعم البعضوإنما هو من بواطن النفس وأسرارها.

وفي هذا الإطــار كتب المفكر الســوري عماد فوزي الشعيبي كتابا بعنوان ‪How A female thinks‬ » كيف تفكر الأنثى» الصادر بالإنكليزي­ة في سنة 2008، وبالعربية ســنة 2017 وهو كتاب يقلــب الموازين في كيفية التفكير، لاسيما وأن صاحبه يقدم جرعات تفكير مســتحدثة تُوقظ في الإنســان مكامن الحس، ويعيد الاعتبار إلى هذا الجزء المسكوت عنه في أغوار الجسد الإنساني، وهو اعتبار مبني على فرضيات علمية قوية ترى أن الجزء الأيمن من المخ ذو ســمات أنثوية، وهذا الجزء هو الذي تعتمده الأنثى بشكل أساسي، أكثر من الذكر، ولهذا تراها تتحكم بنواصي الحدس والعاطفة، وتوظفها في كثير من الأمور. وقد كان من طموح المؤلف في هذا الكتــاب، أن يُعيد الاعتبار إلى هذه المســاحة الحدسية الكامنة، حســب اعتقاده العلمي، في الجزء الأيمــن من المخ، حيث تســيطر على مفاصــل التفكير وتنتج تفكيرا بالحدس.

هــذه الفرضيــة تبلورت بشــكل أكثــر حرصا في كتــاب آخر معنــون «بالمخ ذكــر أم أنثــى؟» للكاتبين عمرو شــريف ونبيل كامل، نظــرا لتخصص أحدهما في الجراحة والآخر في التنمية البشــرية. وهو كتاب يحطــم مســلمات التفكيــر التقليديــ­ة، القائمة على معطيــات قبْلية، تعتبــر أن بنية التفكير، والتنشــئة الاجتماعية، وأسلوب الحياة عائدة إلى التربية داخل العائلة، لتؤســس لمنطق جديد يقوم علــى اعتبار أن بنية المخ، في حد ذاتها، مجددة لطبيعة السلوك ومنها ما يهمنا في هذا الإطار «الحــدس» حيث يجد له مكانا في الإمكانات الأولى المؤسســة لرؤية الكون والتعامل معــه. ومــن زاوية نظر أخــرى تصــدحُ مقدمة كتاب «الحدس أبعد من أي حس» للهندي أوشــو مريم نور بأن «الحدس والحس والفطــرة والبديهة هي الثروة المفقودة والموجــود­ة» وهي إحالة علــى الأدوار التي يمكن أن تتقنها حدوسنا إنْ نحن احتفينا بها، وإنْ كان أوشو يذهب مذهبا آخر في قراءته للحدس، قريبة من المنطق الروحاني والصوفي، حيث يدعو إلى تنشــيط دور القلوب، مــكان العقول أن ننتقل مــن «الفكر إلى الحدس من الرأس إلى القلب لأن القلب هو الأقرب إلى الأسرار .»

فضلا عن هذا قد تستوطن فكرة الأهواء والحدوس مملكة اللغة، بمنطق سيمائي، نذكر في هذا السياق أن للسيميائيي­ن الفرنسيين ألجيرداس جوليان غريماس وجاك فونتيني كتابا بعنوان «سيميائيات الأهواء من حالات الأشــياء إلى حالات النفس » والترجمة للكاتب المغربي سعيد بنكراد، وقد كان هدفهما إعادة الاعتبار إلى سلطة الأهواء المرتبطة بفلسفة التوقع والحدس، في مقاربة الأشــياء، وهي فكرة وإن كانت ذات سمات لغويــة بحتة، فإنهــا تعيد الاعتبار إلــى هذا الجانب الهووي في الإنسان، وهو جانب مهم في إعادة تشكيل الإنســان الحديث الذي يؤمن بمبدأ التعدد في داخله، ليفتح آفاق التواصل إلى أبعد الحدود.

على ســبيل الختام نقول إن الحدس اليوم يعتلي عرش مملكة التفكير فــي أوروبا، وهو بوصلة جديدة يخوض بها الفكــر الغربي مســارات البناء، في حين ما يزال الحدس في علاقته بالإنســان العربي مُحاطا بترســانة من المعتقدات والخرافــا­ت تُعيق فهمه على الوجه الذي يليق به، وإذا سلمنا بأن الحدس - وكما تقــول النظريات العلميــة الحديثة - معطــى أنثويا فما علينا سوى إعلاء شــأن هذا المعطى، وأن نثق في مملكة المؤنث التي باتت تتحكــم في الفعل التاريخي، وبالحــدس وحده قــد نملك ناصيــة الإبــداع، ففي اعتقادي يبقى المبدع الحق في حاجة إلى حدسه، لكي يؤثث صرحه الفني )رواية / قصة/ مســرحا/ الرسم( فبالحدس تكتمل الرؤية ويولــد التميز، ولهذا فنحن مطالبون بالإصغاء إلى حدوســنا والاحتفاء بها أيما احتفاء.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom