Al-Quds Al-Arabi

الحاكم والمحكوم... والمفكر والطبيب

- ٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

من يحاول اســتحضار بعض اللحظات المؤثرة من دراساته الأدبية سيتذكر قطعا، بالرجوع إلى مرحلة قراءاته من الأدب القديم، كتاب «الإمتاع والمؤانســ­ة» لأبــي حيان التوحيــدي. ومن يتأنى فــي ذكرياته من «الإمتــاع» بمزيــد مــن التدقيــق، سيســتحضر كيف فُصّل الكتاب على شكل ليال، تجاور المداولة العلمية فــي الكثيــر منها ســردية قائمة على مبــارزة بلاغية، تتوخى استعراض مواضيع ذات طابع فلسفي.

كان ذلك الزمن زمن الأديب والحاكم، أو كما سماه مونتســكيو ذات مرة، زمن «الفيلســوف الملك» نسبة إلى أفلاطون الذي تمنى يوما لو «أصبح الفيلســوف ملكا، والملك فيلســوفا». وقتهــا، كان الحاكم يراجع المحكوم باســتمرار، وليس لمجرد التسلية، فلا يغترن مغتر، عندما كان يســتهل الأمير البويهي ابن سعدان مداولات الإمتاع والمؤانسة، مخاطبا أبا حيان بعبارة «هات ما عندك» فهولا يقوم ســوى بإعطاء الانطلاقة لحصة تشــاور بينيــة، أيا كان الجنــس الأدبي الذي تتنزل فيــه هذه المشــاورة )مناظــرة، مفاضلة، نبذة تميل إلى الموســوعي­ة، ســرد أحداث علــى نمط «ذكر ما جرى(. كان ذلك الزمان زمــن الحاكم والأديب... اليوم دخلنا زمان الحاكم والطبيب.

قــد يندهش البعض إن قلت إن وجوه التشــابه بين المشــهدين، ورغــم العصور التي تفصــل بينهما، أكثر من وجوه الاختلاف، فالطبيب أيضا يوجد في يومنا هذا في حالة مجالســة مســتمرة مــع الحاكم، ونحن نعلم كيف تطــور مفهوم «المجلس» فــي اللغة العربية بحيــث ظلت ســمة «المجلــس العلمــي» عالقــة به إلى اليــوم، فعلمية بالمفهوم الموســع - النهــل من المعرفة - كانــت المعلومــا­ت المتبادلة بين الحاكــم والمحكوم فــي أوج زمن مجالــس التناظر المعرفــي، التي رجّعت لنــا مصنفــات الأدب القــديم صداهــا.. وعلمية هي، بالمفهــوم الاصطلاحي، البيانات التي يلملمها مجلس أســاتذة الطب الموصوف بالـ»مجلس العلمي» فتنهل منهــا الدولة لاتخــاذ قراراتها وفق درجــات متفاوتة مــن الصرامــة. لكن فارقا أساســيا يعــدل الاختلاف الظاهري، الشــكلي في الواقــع، وهو أن قيمة المجلس لم تعد هنا تثقيفية، بل استشــارية تحسيســية، وإن بقي لها شيء من التثقيف، فلا يتجاوز هذا التحصيل المعرفــي أروقة المختصــن الذين تعجــز «العامة» عن فــك شــيفرة مداولاتهم، بــل «الخاصة» أيضــا. ماذا عن «العامــة والخاصة» اليــوم؟ وعن مكانــة المعرفة بعلميتهــا الذاتية المتعالية علــى التنزيلات الآنية التي تتسبب فيها أزمات من نوع تلك التي نعيشها؟

كلنا هذا المســاء في انتظار خطاب رئيسنا المثقف، ليعلن عن إجراءات جديدة بين حظر للتجوال وإغلاق

جزئي، على ضــوء تنامي معدلات تفشــي الوباء من جهــة.. لكن أيضا على ضوء المعارف المكتســبة خلال المعركة المستمرة لمكافحة الجائحة، كطرق ردع ارتفاع مستويات التجمعات، من بينها التجمعات الليلية.

كان الحاكم والمحكوم يعيشــان فــي الزمن القديم علــى إيقاع غيــر إيقاعنــا، كان العلم فــي ذاك الزمان توأم الســلطان... كان ذلك الزمن زمن المثقفين. لست متشــائما، لا أؤمن بنظريــات الانحدار المنتشــرة هنا وهناك، القائلة ببلوغ الثقافة والمثقفين نقطة لا عودة، لا ينفــع معها عــاج. كلا، ينفــع العلاج، عــاج الأزمة الثقافيــة وعــاج الأزمــة الصحية، شــريطة أن يدرك الحاكم والمفكر والطبيب أن التعافي لن يقوم من دون تعاضــد خبراتهــم، إدراك عاجل يمر بتغييــب «الأنا» لمصلحة الكل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom