Al-Quds Al-Arabi

صراع مع ديكتاتورية «كوفيد - 19» أم خوف من الموت؟

- زيد الحديوي ٭ ٭ كاتب مغربي

بتاريــخ 12/31/2019 انتهت ســنة، لتحل ســنة جديــدة والكل يهنئ أصدقــاءه وكل من لــه صلة به بحلولهــا، وكان البعض يأمل من الســنة الجديدة أن تكون فاتحة خير له، وأن يجد ملاذه فيها، والبعض الآخر يأمل منها أن يستمر في قطف ثمار جهده، بعد أسابيع قليلة بدأت الأخبار تأتينا من بلاد التكنولوجي­ا المتطورة أن مرضا جديدا بدأ بالظهور.

في الوهلــة الأولى الكل انهال على بلاد أصحــاب العيون الضيقة أنهم هم الســبب فيما هم عليه، وأصبحت مقاطع مصورة كثيرة تنتشر في كافة مواقــع التواصل الاجتماعي، هذه المقاطع تحمــل مختلف الأطعمة الغريبة التي يتناولونها والكل مشمئز من ما تبصره عيناه، وبدأت التأويلات تطفو على السطح، وكان منا من يضع نفسه في خانة الآمن المعصوم.

البؤر المرضية

المرض بدأ بالانتشار وبدأ ينهش جسد مدن الصين إلى أن ظهرت «البؤر المرضية» وإلى حدود تلك اللحظة الكل كان يظن أن الأمر ســينتهي عند هذا الحد، ولكن مع انتقال العدوى للقارة العجوز؛ التأويلات والاحتمالا­ت بدأت تتغير عما كان. لم تمر أيام كثيرة على ظهور أول حالة تحمل المرض الجديد في القــارة العجوز من كوفيد - 19 حتى نهش المرض جســد بلاد الطليان التي كانت توصف ببلاد الأمن الصحي، فشل العالم في احتواء المرض، هذا الفشل الذريع جعل من المرض وحشــا ينهش جسده، غذى المرض وباء لا يصد إلى درجة أن هناك من جعل نفســه محصنا ولكن وصل إليه دون أن يعرف أي نافذة تســلل له منها. الخطر بدأ يحيط بالكل كيفما ما كان شأنه، الدول بدأت تغلق كل منافذها لتصبح بنية مغلقة تحارب لنفسها دون النظر لجارتها أو حليفتها، أغلقت الجامعات، المدارس لم يعد من يعمرها، المكتبات أصبحــت دورا مهجورة، المقاهي التي كانت تعــم الأمكنة أصبحت كأنها لم تكن من ذي قبل، السكون بدأ يعم الأجواء، الأزقة أصبحت شبه خالية كأن الحرب مرت منها، وجوه البنايات أصبحت شــاحبة، الوباء أصبح لوحده يجول بين الأزقة دون حسيب ولا رقيب، المستشفيات والبنايات الحكومية هي التي لــم تعد خالية، ولكــن الوباء يتربص بها ويهيئ لنفســه فرصة للدخول.

«الأنا» بلغة «ســيغموند فرويــد» التي كانت تضمرهــا المجتمعات في جحورها بدأت تطفو ولم تعد شيئا يخجلون منه، التباهي بالأخوة والتآزر

بدأ يندثر، الوبــاء لم يراع للفوارق الطبقية ولم يميز بين ذا وذاك، الكل بدأ يتســابق للمحلات كي يضمن قوته، الآنا بدأت تســيطر على الكل، أصبح الصراع مكشوفا، الكل يبحث لنفسه عن ملاذ آمن، اختلفت أطراف الصراع، فيما قبل كانت الجماعة ضد الوباء، ولكن بعد أن أحس الكل بالخطر أصبح كل منــا في صراع لوحده مع الوباء، الأنا جعلت من العدو أخطبوطا متعدد الجبهات؛ منا من يحارب ضد الوباء خوفا على ســامته الصحية، وهناك من يحــارب خوفا من الجوع والموت البطيء، وهنــاك من يحارب من أجل أبنائه جاعلا نفســه قربانا، غير آبه بما ســيقع له، وهناك من يقاتل عبثا دون أن يعــرف أي كائن يهدده، وهناك من يصــارع لكي لا يهدم رأس ماله ويعود لمرارة الفقر ويعود لحاله القديم الذي ظل يحاول إزالته من تاريخه.

كائن غير مرئي

أغلقت المدن، بني آدم دخل في رعاية الحجر الصحي، الكل يحتاج لجواز ورخصة خاصة للخروج للأشــياء الضرورية، الكل خائف من كائن لا يرى بالجفون، ولكنه وحش في الأذهان والأفئدة، الكل أصبح يحاول أن يصنع صورة لهذا الذي صد الأبواب على الكل «بلا موجب شرع» الأخبار على مدار اليوم كلها تتحدث عــن الوباء، الكل بدأ يبدي برأيه، قبل هذه المرحلة كنت جالســا بالمقهى بمدينة «قصر السوق )الراشــيدي­ة)» لاحظت أن كائنا غير مرئي استطاع أن يخلق موضوعا تارة للنقاش، وتارة أخرى لخلق الدعابة خاصة مع شــيوع أخبار أن الفيروس لا يستطيع أن يعيش في طقس مدينة معظم من يــدرك موقعها الجغرافي يخاف من فصل صيفها، هذه الإشــاعة جعلت الكثير يصنع نكتا من مخيلته تظهر كيف ســيلقى فيروس الكورونا حتفه في هذه البلاد... مع مرور الأيام بدأ الوباء يكشــف عن أنيابه، والكل أصبح يعترف أن الأمر لم يعد مضحكا.

الحال لم يعد كما كان، الطليان أقروا أن حلول الأرض انتهت الأمر متروك للسماء، الكل أصبح داخل منزله خائفا من الوحش الخفي، لكن الجوع كان له منطق مختلف وبدأ هو الآخر يكشف عن أنيابه الإنسان البسيط أصبح بين المطرقة والسندان؛ وأصبح حائرا بين الجوع الذي يتربص به وبكل من حوله في المنزل، والفيــروس المتوحش ينتظر هو الآخر في عتبة كل منزل، وينتظر بفارغ الصبر الفرصة التي سيغرس فيها مخالبه على كل من سولت له نفســه أن يخرج من مخبئه، الأخبار على مدار الساعة كلها من أجل الملك الجديد على عرش العالم، والغريب في الأمر هو أن هذا المخلوق غير المرئي بالعين المجردة هو الكائن الوحيد الذي اســتطاع أن يصنع لنفســه مملكة كونية، تضم كل الشــرائح وكل من سالت نفسه أنه قوي ولكن وجد نفسه تحت إمرة هذا المخلوق الذي أبان على فتكه وخبثه، مرت الأيام وهناك من ظل صامدا أمام الحصار ظنا منه أنه فقط بضعة أيام ستكفي لتبديد وإعدام «كوفيد» لكن طالــت الأيام وطال معها الحصار، الزاد وكل ما تســلحت به العباد بدأ ينفد.

الحجر الصحي طال ولم يكن بتلك المدة التي كان الكل يتصورها، ولكن دعونا لا نهلك الحجر الصحي بالانتقادا­ت، صحيح أنه خلق أزمات نفسية ولكن مع ذلك فقد كشــف لنا «كوفيد» ما لم تكشــفه لنا الأنساق الثقافية، لقد كشــف لنا ما لم تكشفه لنا التحولات السياســية، لقد أزاح الستار عن التكتلات المزيفة، لقد امتلك القدرة على الكشــف عن ما عجزت الكشف عنه المعاناة البشرية، ستكتسي «الكورونا» لا محالة ثوبا أبديا سوف يعود إليه الفيلســوف والأديب ... مهما اختلفت أصولهم، ودياناتهم، وتوجهاتهم... ســتصبح الكورونا رمزا يزاحم رموز الثقافة الإنســاني­ة، وستنشــغل به الإنسانية على مر العصور.

الويلات

ولكن ما يحز في النفس، هــي الويلات التي أصبح يتخبط فيها المجتمع بمختلف شــرائحه، هنــاك من لم يعد قــادرا على تغطية معــاش أبنائه، والبعض الآخر اكتشــف أن أبناءه لم يكونوا كما كانت تطمح إليه نفســه، ولكن للأســف اســتفاقته كانت متأخرة، كيف لا وأيامه فــي المنزل كانت معدودة؛ يأتي بعد مدة وبعد ســفر طويل ليســتريح من ألم الجهد البدني الذي كان يبذله في ورشــات البناء، بعد ذلك يعــود لنفس المنوال، ولكن بعد أن حجره كوفيد اكتشــف أن معرفته بأبنائه كانت سطحية ليس إلا... لكن أغرب ما ســمعته أذناي هو حالة طلاق كانت في فترة الحجر الصحي، وســببها هو عدم قدرة التواصل بين الزوجين وعمــر زواجهما في ميلاده العاشــر، تخيلوا معي أن طيلة العشــر سنوات التي عاشــها زواجهما لم يجلس الزوج رفقة زوجته شــهرا كاملا، وفي فتــرة إجازته يقضي معظم الوقت مع رفاقه «النشــاط والضحك» ولكن عندمــا ألزمه الحجر الصحي الجلوس في المنزل قصرا ووجوبا اكتشف أن لا يمتلك علاقة عاطفية وطيدة مع زوجته، صحيح أن كل شــيء متوفر في المنزل ولكن الشــيء الأهم في الحياة الزوجية غير متوفر.

عــداد أيام الحجر الصحــي لا يريد أن يتوقف كلمــا ازداد عدد الحالات المؤكدة زاد معها إجراء جديد، الأحوال تزداد ســوءا الكل أصبح يتذمر مما

هو عليه وبدأ ذهنه يفتي عليه أمورا عديدة أولها الخروج لضمان ما يسكت معدته، لكن بمجرد الاطلاع على الأخبار التي أصبح تتكلم فقط على كوفيد يتراجع عن فكرته، لكن مهلا شيم الرجال والشعوب الأصيلة بدأت تستفيق وضمائرها أخيرا بدأت تقول شــيئا ذا نفع، الكل أصبح ينادي أن التعاون هو الحل في هذه الأزمة، هناك من ساهم بقدر مالي لعائلة ما يدرك معانتها، وهناك من كلف نفســه عناء اقتناء بعض المواد الغذائية ليدخل البهجة في نفوس تعب كهلها بسبب الأزمة، وهناك تنازل عن رسوم الكراء... المهم هو أن بني آدم أصبح مدركا أن التعاون والتآزر هي الســبيل الأنجع للتخفيف من حدة الأزمة، على الأقل كوفيد كشــف لنا عن مدى نبــل أخلاق العباد، والعود يكون قويا عندما يدخل في تكتل يحميه عند الضرورة.

طالت أيام الحجر الصحي، ورافقها الانتظار والتشــبث بحبل الأمل عله يظهر الملاذ الأخيــر، الكل ينتظر الخلاص، ولكن هيهات الأشــهر العجاف بدأت تزعزع أمل نفوس العباد، وكل يــوم تصلنا نفس الأخبار، الفيروس يعرف انتشارا واسعا ولحد الآن لا دواء له، وما زاد للنفس تدميرا هو تغير تنبؤ المنظمــة الوصية على الصحة في العالم، فتــارة تقول؛ إن الوباء لن يدوم بالقدر الذي نتصوره، وتارة أخرى تكاد تجزم أن الوباء سوف يدوم ويجــب أن نتعايش معه، والمضحك في الأمر هــو، كيف يمكننا أن نتعايش مع ديكتاتور بيولوجي أذاقنا كؤوس من الحنظل البري؟ هل ستقبل النفس أن تعلن الســام والتعايش مع مخلوق جعلها حبيسة الجدار لمدة طويلة، وجعلها تصطدم مع الجوع ليالي وأيام؟ لا أظن أن نفوس العباد ســتتقبل مخلوق أرعب الكل وعصف بالكثير، من صمد لشــهر لعاصفته وجد نفسه في الشهر الموالي أمام واقع مر، ومن صمد لشهرين أو ثلاثة اصطدم بخبث الديكتاتور البيولوجي، هناك مــن فقد نصف عائلته، وهناك من ظل بعيدا عن أبنائه تــاركا إياهم يصارعــون للبقاء، وهناك من لم تكــن له القدرة على مواســاة زوجته في ألم مخاضها، كيف لهــذه الزوجة أن تتقبل فكرة التعايش مع الوباء الديكتاتور­ي عديم الرحمة الذي جعلها تعيش مخاض الولادة لوحدها دون زوجها؟

لحد كتابة هذه الأســطر لازالت المعاناة مستمرة، والصراع مزال مريرا، أما نهاية كل هذا هي الشيء الذي لم نعد مدركين متى ذلك، وكل ما قصصناه في هــذه الصفحات ما هو إلا نمــاذج من الغرائب والأحــداث التي رافقت ســيطرة كوفيد - 19 ولا شــك أن كل منا عاش أشياء أخرى، أو كان شاهدا على قصص كثيرة ومؤلمة للوســط الذي كتب له أن يعيش فيه ديكتاتورية الوباء.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom