Al-Quds Al-Arabi

الهجمة على فضيلة الوفاء والإخلاص

- د. علي محمد فخرو* * كاتب بحريني

تقيّم كل فتــرة تاريخية من حياة الأمم، لا بالأحداث التي حدثت إبان تلــك الفترة فقط، وإنمــا أيضا بقيم الفضائــل أو الرذائــل التــي كانت وراء تلك الأحداث أو التي حكمتها. ذلــك أنــه بالنســبة للكثيريــن مــن الفلاســفة، اعتبــرت الفضيلة، قوة وإرادة تحدد مقدار إنســانية الإنسان، وبالتالي مقدار إنسانية المجتمعات، والعكس يقال بالنسبة للرذيلة.

مناســبة إثارة هــذا الموضوع هي التحــولات المقلقة التي تطال الفكر والسلوك والقيم الأخلاقية، في بعض أجــزاء الوطن العربي، ســواء في تعبيــرات ومواقف بعــض الأفــراد، أو فــي تصرفــات وقــرارات بعــض المؤسسات الرسمية.

ولعــل أكبــر وأعمــق وأفدح تحــول، هو مــا أصاب فضيلــة الوفــاء، أو الإخــاص لتعهــدات والتزامات، ومواقــف وأفــكار ســابقة. ونحــن هنــا نتحــدث عن الإخــاص النبيــل المحــب الملتــزم، وليــس الإخلاص المظهــري الكاذب. والســؤال الذي يطرح نفســه بقوة: هــل نحــن أمــام إشــكالية ضعــف، فــي تذكــر أقوال ومواقف والتزامات الماضي، وهو ما يمكن حدوثه عند الأفراد، بســبب المرض أو الخــرف أو الجنون؟ أم أننا أمام إشــكالية تراجع في حساســية ونبــل أخلاقيات ضمير الإنســان، الــذي ما عاد يحكــم تصرفات بعض الأفــراد أو بعــض المؤسســات؟ وهنا، هل نحــن أمام ظاهرة وصفها الفيلســوف الألماني نيتشه «بأن الكذب الأكثــر انتشــارا هــو الكذب علــى النفــس»؟ وفي هذه الحالة «فإننا نهدد أســس كل الفضائل، وهو التوقف عــن الكــذب»، كما قــال الكاتــب والشــاعر الإنكليزي توماس هاردي. نحن بالطبع لســنا ضد تغيير الأفكار والقناعات والالتزاما­ت الســابقة بســبب تغير حقائق الواقع والظروف المســتجدة، ولكن هل يســتطيع أحد إقناعنــا بأن هناك أســبابا حقيقيــة موضوعية مقنعة فــي الواقع العربي تحتم عدم الإخــاص لكل مكونات الماضي البعيد والقريب؟

هل حقا أن هناك أسبابا موجبة للانقلاب على هوية العروبــة الجامعــة، التي تمتد قرونا فــي تاريخ العرب الطويل، والتي أوجدت تاريخا مشتركا، ولغة واحدة، وثقافــة فكريــة وأدبيــة واحــدة، وســلوكا اجتماعيا واحدا، وإلى حد كبير دينا واحدا يقبله الجميع كمكون أساســي في ثقافــة الأمة؟ هــل حقا أن هناك أســبابا جــدّت لانغماس الشــعوب فــي لعبة فاجــرة، تقودها قوى خارجيــة اســتعماري­ة متعددة، من أجــل إدخال الشــعوب في صراعــات عبثيــة، ومناكفــات مخجلة، وغمز ولمز بذيئين، واتهامــات ملفقة، وتناس لتعاضد أخوى عبر القرون، وجعل بلادات وجهالات شــبكات التواصل الاجتماعي هي الحاكمة للمشاعر وللأقوال؟ هــل حقــا أن هناك أســبابا موجبــة لقــراءة كل حدث صغير فــي أي بقعة عربية، يقوم بــه جاهل أو غاضب أو يائــس، جعله أساســا لعلاقة هذا الشــعب العربي بذاك الشــعب العربي الآخر. ألا يرى الإنســان العربي العــادي أن وراء كل ضجة حول كل حدث تافه صغير، اســتخبارا­ت أجنبيــة أو جهــات داخليــة تعيــش على اســتعمال الدين، والعرق والجنــس والمذهب، والجهة الجغرافية، وأخطــاء التاريخ بصور انتهازية، من أجل تغطية هذه الخيانة أو تلك؟

كل ذلك، وأكثر من ذلك بكثير لا يفســره إلا التراجع المذهــل فــي فضيلة الوفــاء والإخــاص، إما بســبب الهجمــة المركزة على إضعــاف ذاكرة الأمــة والأفراد، وبالتالــي نســف وتدميــر ما قالــه أيضا نيتشــه «من ضــرورة أن نكــون وارثين لقيــم الأخلاق فــي الأزمنة الماضية حتى لا نبدأ من الصفر»، أو بسبب نجاح ثقافة عولمية مسطحة نجحت في ترسيخ فردية ذاتية منغلقة مجنونة في الإنسان العربي. والنتيجة وصول الأفراد والمجتمعــ­ات إلى تبنــي رذيلة عدم الإخــاص والوفاء لكل قيمة اجتماعية إنســانية نشأوا عليها وشربوا من حليبها طيلة حياتهم السابقة، واليوم ينسونها.

مــا يحتــاج شــباب وشــابات هــذه الأمــة أن يعوه ويحكمــوا حياتهــم به ويتذكــروه دوما، هــو أن أفظع جرائم العصر ارتكبت باســم مســتقبل كاذب متوهم. هكذا نجح أمثال هتلر وســتالين عندمــا أمّلوا ابناءهم بمســتقبل أنســاهم ماضيهم وحاضرهــم. اليوم، هذا بالضبط ما تقــوم به جهات خارجيــة وداخلية، إقناع هذه الأمة بالانقلاب على كل ثوابت الماضي والحاضر، وذلك من أجــل الانخراط في لعبة مســامحة المجرمين علــى حســاب الضحايا العرب، بل نســيان مــا ارتكب وما يرتكب من جرائم بحق إخوانهم العرب، من خلال تدميــر فضيلة الوفــاء والإخلاص للمبــادئ والثوابت والقيــم الأخلاقيــ­ة التــي إن ماتــت فــان كل الفضائل الأخرى ستموت معها.

جهات خارجية وداخلية تقنع الأمة العربية بالانقلاب على ثوابت الماضي والحاضر، ومسامحة المجرمين على حساب الضحايا العرب

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom