Al-Quds Al-Arabi

أزمة فرنسا مع الإسلام

- د. نورالدين ثنيو ٭ ٭ كاتب /أكاديمي جزائري

■ أقوى مظاهر أزمة فرنسا مع الإسلام كونها لا تريد أن تعترف به كدين رســمي ولو بفصله عن الدولة، كما فعلت مع الكنائس عام 1905. فمن جملة الرواســب التي لا تزال تتحكم في منطق الدولة الفرنســية أن الإســام والمســلمي­ن حالة عارضة وطارئة علــى الدولة والمجتمع الفرنســي. فهو لا يدخل في تعريف الهوية الفرنسية، لا بل يجــب أن لا يندرج في الثقافة الفرنســية الحديثة و المعاصرة. والأزمة على هــذا النحو، توضح من جملة ما توضح، أن مسألة الإسلام والمسلمين في فرنسا هي أزمة فرنسا مع جزء منها لا تريد أن تعترف به رسميا. والأزمة حقيقة، وليســت مجازا، لأن المؤسسات الفرنسية اليوم ليست مرشــحة كما ينبغي لمواجهة الإسلام والتكفل به على كافة الأصعدة التي تسمح بها الظاهرة الدينية.

فعلى عكس ما يتصور الرئيس الفرنســي إيمانويل ماكرون، الإسلام ليس في أزمة، بل كل الأزمة موجودة في الدولة الفرنسية التي لم تحسن لحد الآن استيعاب المســلمين في مؤسســاتها الرســمية رغــم قاعدتهم الاجتماعية البارزة. فعندما يطرح الرئيس الفرنســي مقولــة «النزعة الانفصالية الإســامية» بالمعنى الذي يشــير إلى محاربة كافة المحاولات الراميــة إلى بناء «غيتوهات» اجتماعية ومتاريس عقائدية وتنظيمات دوغمائية مشــددة، إنما يشــير إلى ظاهرة ليست من الدين في ذاته، بقــدر ما تحيل المقولــة إلى تنظيمات جهادية ونزعات انكفائية لا تعبــأ بالعيش مع الآخر. فبدلا من مواجهة الدين كمنظومــة قيمية ونمط حياة مســالم وفكر إنســاني مقبول، فَضَّل الرئيس ماكرون ومعه اليمين الرأسمالي والإيديولو­جي المتطرف حصر الإسلام والمسلمين في التنظيمات الجهادية والتيارات المغالية التي راهنت عليها الأنظمة الســلطوية العربية في البقاء في الحكم وتبرير ذلك حيال الغرب والعالم.

فرنســا لها تاريخ حديث ومعاصر مع الاســتعما­ر، لا بل هــي التي صنعته ضمن ظاهرة الاســتغلا­ل على الصعيــد العالمــي، ذروة الامبريالي­ة علــى حد تعبير فلاديمير لينين. والاستعمار خطاب مخاتل ينطوي على ما يتستر عليه وعلى ما لا يفصح عنه صراحة، من ذلك اعتبار فرنسا إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف، كان لهــا الفضل الكبيــر، على ما تزعــم، أنها واجهت جيوشا إسلامية بقوى إسلامية تابعة لإمبراطوري­تها، على ما حدث فــي الحرب العالمية الأولى عندما واجهت الدولة العثمانيــ­ة وبعض الأقاليم التابعة لها، لا بل أن احتلال بعض البلدان الإســامية تم بقوى إســامية أيضا، مثل تونس والمغرب. ففي زمن الاســتعما­ر كان الحديث عن الإسلام والمسلمين ســهلا ويمكن مراوغة ممثليه فــي بلدانهــم، لكن لّمــا يتعلق الأمــر بلحظة تصفية الإستعمار وأن يجري الحديث عن الإسلام في المتروبول فتلك مشــكلة حقيقية، أو أزمة عويصة فعلا، لأن المؤسســات الفرنسية لم تعمل على تبني دين أكبر أقلية في فرنسا منذ الحرب الكبرى إلى اليوم، ولا تزال رقعة المسلمين تتسع يوما بعد آخر.

المسافة التاريخية بين اعتماد مبدأ الفصل بين الدولة والكنائس في فرنســا عــام 1905 وبين اعتمــاد مقولة «النزعة الانفصالية الإســامية» التــي يجري الحديث عنهــا اليوم، ويمكــن اعتمادهــا يوم 9 كانــون الأول/ ديســمبر القادم وهو نفس اليوم الذي اعتمد فيه قانون الفصل بين الدولة والكنائس، لا تحسب في المدة الزمنية فحسب، بل في مدلول «الفصل» الذي لم يعد يعني فصل الكنائس المسيحية عن مؤسســات الدولة. فقد تطورت أوضاع فرنسا بشكل مذهل وعلى نحو يقطع ولا يتواصل مع التاريخ الراكد، بل كل المجال الفرنســي، منذ الحرب العالمية الثانية صار يهتز ويهجع ويتأثر بما يجري داخل

وخارج فرنســا. ولعّلنا لا نغالي عندما نشير أن الفضاء الفرنسي، مع عواصم أوروبية أخرى شَكَّل مجالا للتعبير عــن المقاومة الوطنيــة العربية، خاصة بلــدان المغرب العربي أو بلدان شمال أفريقيا على ما يطلق عليه في ذلك الوقت، أي أنها كانت أرضا لمحاربة ومواجهة الاستعمار ذاته، وأن نزعة تصفية الاستعمار صناعة وحرفة غربية توسَّــلتها والتمســته­ا الشــعوب العربية والإسلامية لتوكيد بناء الدول والأمم الحديثة والمعاصرة.

أزمة فرنسا مع الإســام، أنها لا تستطيع أن تواجهه بالعــدّة أو الرصيد الفارغ من الدين. ففــي مطلع القرن العشــرين عندما جرى النقاش والحــوار والصراع بين الدين والدولة، كانت الكنائس لها ذمتها المالية ونفوذها الاجتماعي وســلطتها الدينية والرمزية والمعنوية، ومن ثــم كانت المواجهــة متكافئة لحد فصــل المجالين بالقدر الذي يســتقل كل واحد بما يمثل قوته وســلطته. ومنذ ذلك الوقت انســاقت فرنســا في ما عــرف بالعلمنة، أو خروج الدين من المجال العام وتعرضت إلى الســيرورة الدنيوية على حد تعبير المفكر الفرنسي مارسيل غوشي. وكان واحد من أهم نتائج هــذه العملية خواء الكنائس من روادها وانحســار الدين من ضمائر الناس وانفض الجميع مــن حول رجــال الكهنوت. والمــأزق الذي ألت إليها الدولة الفرنســية في عهد ماكرون أنها تريد إعادة التوكيد على خاصيتها المســيحية في مواجهة الإسلام.. لكن هيهــات.. لأن انهيار الحضارة المســيحية بدأ فعلا، و نحن نعيش ما بعدها على رأي الفيلســوف الفرنسي ميشال أونفري ؟

وبدفع التحليــل إلى آخره، يمكننا القــول أن مقولة «النزعة الانفصالية الإســامية» في فرنســا لا يمكن أن يتصرف فيها من هم خارج الديانة الإســامية ومن هم في غير وضعية المســلمين، الذين يتعين توكيد مكانتهم كمواطنــن فرنســيين كاملــي الحقوق والحريــات. فالنزعة الانفصاليـ­ـة هــي النمــوذج الأوروبي للهجــرة من البلدان العربية إلــى الغرب. فقــد وفّرت العلمانيــ­ة فضاءات ومجالات يمكن الاستقلال بها داخل المجتمعات الغربية، مثــل رئيس بلدية لندن الســيد صادق خان مســلم من أصــول باكســتاني­ة، وحتى بعــض الدول الأســيوية المتقدمــة، لعلّ الشــاهد القوي على ذلك وصول ســيدة مســلمة حليمة يعقوبي من أقلية الملايو إلى سدة الحكم في سنغافورة عام 2017.

حالة من العياء انتابت الحضارة الفرنســية ولم يعد بوسعها مواجهة النوازل الجديدة. والإسلام في الحالة التي عليها اليوم هي حافز رائع ودعوة لاســتجماع كافة القوى القائمة خاصة منها ذات أصول وافدة واســتقرت في التراب الفرنســي وحازت على جنســيتها على هذا الأساس. فالمســلمو­ن اليوم وغدا في فرنسا ليسوا ممن يطلب الاعتــراف بهم كآخر أو غير، بــل لهم من الرصيد الثقافــي والاجتماعي والتربوي مــا يكفيهم لمخاطبتهم كمواطنــن كاملي الحقوق والحريات. فرنســا ليســت في مواجهة الآخر على ما ينظّــر وينظر اليمين المتطرف ومعه الرئيس نفســه، بــل هم في صــراع غير محمود العواقب مع جزء مهم من الذات الفرنســية التي وصلت إلى كافة الهيئات التمثيلية، وصــار لها نصيب وافر في تحقيق التنمية العامة والتطور العام، لكن يتم اغتصاب حقهم الوجودي في قرصنــة إعلامية يمينية صهيونية، تخرجهــم من وضعيــة مؤمنين إلى وضعيــة جهاديين، إرهابيين، أصوليين.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom