Al-Quds Al-Arabi

«قبل أن أموت...»

- سهيل كيوان

رُفع الإغلاق بعد أســابيع مــن تحديد الحركة بســبب الكورونا، فأســرعت إلى البحر، وبالذات إلى شــاطئ البصّة القريب من رأس الناقورة، شمال فلسطين. البصّة شقيقة للزّيب القريبة، وكلتاهما مُهجّرتان. فــي الخريف أحبُّ هذا الشــاطئ، فالمياه تصبح شــديدة الصفاء وفيروزية اللون، والنســمة تحمل برودة خفيفة، على الرمال مظلات من القصل، وروّاد المكان قلائل، فيه حمّامات ومقصف وخدمة إنقاذ.

عندمــا وصلــت، انتبهت إلى لــوحٍ أخضر كبير مثــل الألواح في صفوف المدارس، معلّقٍ على الجدار بحذاء بوابة الدخول، مكتوب في أعلاه بخط عريض بالعبرية عبارة «قبل أن أموت...»؟

ظننت أنني لم أحسن قراءة الجملة، فقرأتها مرة أخرى وصوّرتها بهاتفي.

إنهــا صيغة ســؤال، تحت العنوان عشــرات الأســطر التي تبدأ بالجواب لمن يرغب في تكملته: قبل موتي أريد أن...! استغربت، فما علاقة سؤال كهذا على مدخل شاطئ استجمام؟ في مثل هذه الأماكن تكون كلمــات أو صور مثيرة للتفاؤل والإقبال على الحياة. كان هناك الكثير من التعليقات: قبل أن أموت أريد أن أكون مع فلانة. -أريد أن أعيش-أريد أن أسافر إلى كل العالم. -أريــد أن أ...أختك-أن أمــوت مليونيراً-أن أتقــن العزف على الجيتار- أن أعيش إلى 120 . -أريد هدوءاً-أن أفوز في ويمبلدون-أن أبتسم.. -أن تفهموا بأن كل شيء باطل. بعض التعقيبات فيها مرح وجنس، الســؤال يبدو تشاؤمياً، لكنه في الواقع تفاؤلي، ويحثّ الناس علــى اليقظة من الروتين والغفلة، والسّعي إلى تحقيق أحلامهم قبل الموت المحتوم.

استلقيت على الرمال تحت مظلة القصل، ولا صوت سوى ما يبثُّه الموج الناعس وحفيف أوراق القصل الجافة.

كان عدد من الغربان يتنقل بين الرمال الناعمة وقمة المظلة، تنعق حيناً ثم تهدأ. ذكّرتني الغربان بمقطع من قصيدة النهر المتجمد لميخائيل نعيمة: «والحور يندُب فوق رأسِك ناثراً أغصانَه لا يسرحُ الحسّونُ فيه مردّداً ألحانَه تأتيه أسرابٌ من الغربان تنعق في الفضا.. فكأنها ترثي شباباً من حياتك قد مضى». يقفز غراب فضولي ويقترب منّي، على بعد خطوة واحدة. بحــذر أتناول الهاتف كي أصوّره، فيقفز محلّقاً مبتعداً كأنه يقول: العب غيرها..

أغمضت عينــيّ، وكأنما طفَوْتُ في الهدوء، فنعق الغراب كأنه يلحُّ في السؤال: ما الذي تريده قبل موتك؟ -حِلّ عني! -ألم تكن في لحظة ما قريباً من الموت؟ في حياة كل واحد منا لحظات كاد يلقى فيها حتفه، لكنه ينســاها كأنها لم تحدث، فنهاية السّلامة تجبُّ ما قبلها.

من منا لم يكن على مســافة ثوانٍ من حادث طرق قاتل، أو حادثة عمل، أو حادثة شرايين في داخل جسده؟

أغضمت عينيّ، وتذكرت نفســي في مصنع للكيماويات في خليج حيفــا، كان هذا في اليوم الثاني لبدء العمل، على ارتفاع بضعة أمتار بــن أنابيب البخار ومــاء التبريد والهواء المضغــوط، أحمل مفتاح مواسير، أحاول فتح ســدادة حديدية في طرف أنبوب بقطر خمسة إنشات، السّــدادة كانت موجّهة إلى الأعلى، انحنيت عليها، وصرت أشدّ بكل ما أوتيت من قوة، لكنها بالكاد تتحرّك وببطء شديد، ظننت أنّ هذا بســبب الصدأ، كنت عنيداً، أشــدُّ بأقصــى قوّتي وعزيمتي، خيوط العرق تتساقط من ذقني على السّدادة.

كان مدير العمل الأشيب النحيل، ذو النظارات الطبية، تحتي على الأرض، يروح ويغدو كضابط غاضب: ما الذي يجري عندك؟ لماذا لم تفتح الغطاء حتى الآن؟

استمر هذا دقائق أخرى، سبحتُ في عرقي، حاولت وحاولت حتى وصلت إلى حافة اليأس، لكنني كنت مشــحوناً بالتحدي، فأستعيد المحاولة. -ألم تفتحه بعد! توتّرت أعصابي، وصرت أداور تارة من اليمين وتارة من اليسار، أنحني أكثر أو أقل، أشــد بكلتا يديّ وحتى بصــدري، التحدي بيني وبين أســنانها الصدئــة التي ترفــض الخضوع، ســأفتحها يعني ســأفتحها، أعتقد أنها تحرّكت، نعم ها هي تخضــع أخيراً، لقد بدأتْ بالتراجع، ســوف تستسلم، ها هو سنٌ آخر يتراجع، ظهر لمعانه، إنه يقاوم بشراســة لكنه يتراجع، أيتها السّدادة العنيدة، إرادتي أقوى من الفولاذ.

فجأة حدث هذا، كان هذا انفجاراً هائلاً، شيء ما مسّ شعر مقدمة رأســي، وانطلقت السّــدادة التي تزن مئات الغرامــات مثل قذيفة في الفضاء تابعتها ببصري عشــرات الأمتــار وهي ترتفع في اتجاه السّــحاب، ثم عادت لتهوي يرافقها صوت الهــواء المضغوط بقوة، كانت دفقة من الصدأ وبرادة الحديد انغرزت في جبهتي، لم أنتبه أن وجهي اصطبغ بالأحمر.

كان الأنبوب ممتلئاً بهواء ساخن مضغوط بقوة، لا أعرف بالضبط مصدره، فهو واحد في غابة من الأنابيب. لقد كان بيني وبين تحطم جمجمتي مسافة ملمترات. كنت قُتلت وأنا في الواحدة والعشرين، وصرت نسياً منسياً، كان والداي سيختاران صورة لي ويؤطّرانها ويعلقانها على جدار غرفة الاستقبال.

كان خيط حياتي قد انقطع هنــاك، الملمترات التي أخطأت جبهتي كانت ستغّير مصائر عشــرات من البشر، زوجتي لن تكون زوجتي، وأبنائي لن يكونوا أبنائي، وأنا لست أنا.

أتذكر ملامح مدير العمل الذي لم يعلق سوى بالقول: خذ أغراضك ولا ترجع إلى العمل.

هل تشاءم مني؟ هل كان عليه أن يعرف بوجود ضغط في الأنبوب وينبهني؟ هل كان يعرف لكنه لم يتوقع أن يكون الضغط بهذه القوة؟ بل، هل كان يعرف لكنه كان شــريراً جداً؟ لا، لا أظن أن الشرّ ممكن أن يصل بإنسان إلى هذه الصورة..

الغراب يقف فوق المظلة وينعب، ومن خلال الشــقوق بين القصل ينظر إليّ كأنما يسألني- حسناً، ما الذي تريده قبل الموت؟

أيها الغراب، أنت متهم بالتشاؤم بلا ذنب، قرأت الكثير عن ذكائك، وأنا معجب بمعشــر الغربان، في الحقيقة لا أستطيع حصر أمنياتي الشخصية، فما إن أفكر بواحدة حتى تظهر أخرى أكثر أهمية، بعضها يخصّني بشكل شخصي، بعضها يتعلق بالكتابة والسّفر!

وعلى صعيد الأسرة، بأن أراها هانئة حتى لحظة رحيلي، أما على الصعيد القومي فأن أرى أمّتي متحررة من كل قيد.

ينعب الغراب ويســألني: حســناً، وماذا على الصعيد الإنساني، أليس لديك ما تريده أن يتحقق؟ -هل تعرف أغنية جون لنون؟ «تخيّل». يرد الغراب- سمعت عنها.. -إذاً، تخيّــل الناس يتنقلون من مكان إلى مــكان بلا حدود وبلا خوف ولا هموم، ببساطة يشعرون بالسكينة..

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom