Al-Quds Al-Arabi

جنازة البدري فرغلي

- ٭ كاتب من مصر

■ توفي فــي الخامس عشــر من فبراير/شــباط الجاري، واحد مــن أيقونات النضال الثوري المصري هو البدري فرغلــي. كانت روحه ونضاله يملآن مصر منذ الســبعيني­ات من القرن الماضي والتســعين­يات، وهو عضو في مجلس الشعب قبل أن يعرفه الكثيرون بنشــاطه الأخير منذ ســنوات، في الكفــاح من أجل حقوق أصحاب المعاشــات التي يطــول الحديث فيها عنه وعن رفاقه في الاتحاد العام لأصحاب المعاشات. كان دخولــه مجلــس الشــعب أول تجليــات العمل السياســي، من خلال حزب شرعي هو حزب التجمع، لكــن منذ الســبعيني­ات والبــدري مرتبــط بالأفكار اليسارية، قبل أن تصبح هناك شرعية للأحزاب.

عرفته أول مرة في بداية السبعينيات أيام السادات فترة الشباب المجنون، تردد اسمه مع أسماء يساريين كثيرين في مواقف ضد سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي قــام بها الســادات بعد حرب أكتوبر/تشــرين الأول، وكانت بدايــة لتخريب الإنجازات الاقتصادية والاجتماعي­ــة، التي حدثت في عهــد عبد الناصر، بل التي ســبقته. لم نلتــقِ لكن كانت أخبــاره تأتي إليّ وغيره من اليساريين، باعتباري واحدا منهم، وإن لم يطلني الســجن مثلهم في ذلك الوقت. كان اسمه يهل علينا دائما مسجونا مع غيره، أو مبعدا من بورسعيد بعد مظاهرات يناير/كانون الثانــي 1977، حتى عاد إليها بحكــم محكمة. التقينا في حزب التجمع أكثر من مرة، ثم غبنا بعد أن ابتعــدتُ ووجدت أن حياتي في كتابة الرواية، لكن ظل اســم البــدري فرغلي من أهم الأســماء التي ترفرف على الحياة السياســية، ذلك الشــاب الفقير الذي لم يكمل تعليمــه بعد الحصول على الابتدائية، وله ســتة من الأخوة، وكما قال يوما إنها كانت أســرة تحــت خط الفقر. وعمــل مع والده في الشــحن والتفريــغ في ميناء بورســعيد، وأحب القراءة وتقدم فيهــا، وأخذته الكتب عــن الثورات، والتقطته الأحزاب الشيوعية السرية، ثم وجد ملاذه في حزب التجمــع التقدمي الوحدوي، بعد أن أتيحت الأحزاب، ولم يتركه. كان طريقه إلى مجلس الشعب أكثــر من دورة، كما قلت وصــار زعيما للمعارضة في التســعيني­ات ونصير الغلابة الذي ولــد عام 1947، وشــارك في المقاومة الشــعبية طفلا عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي فترسخ في روحه مبكرا حب الوطن، وكان طبيعيا أن يثورعلي ما حوله من ظلم وعدوان.

التقينــا صدفة أكثر من مرة في «مقهى البســتان» زمــان خلال حضوره جلســات مجلس الشــعب في القاهرة. كان شــعوري بــأن صوته يأتي بالســائر بعيدا حتى لو تكلم بهــدوء! الفضاء يجذب المرء إلى البــدري فرغلي وصوته الأجــش العريض، ولا يزال يحمله الفضاء حولي حتــى لو أرهقه الحديث. العمر يمضي والأحداث تتوالى، حتى وجدت البدري فرغلي أمامي يقود مظاهرة بعد ثورة يناير في ميدان طلعت حرب من أجل أصحاب المعاشات. مظاهرة صغيرة من كبار الســن، وعرفت أن البدري منشغل جدا بمقاومة الافتئات الذي يحدث لأصحاب المعاشــات وحقوقهم، وعلى رأســها أموال المعاشات التي تم التلاعب بها في البورصة وأشياء كثيرة.

عادي جــدا أن أكتــب عنه مقــالا مــن المحبة في صحيفة «الأخبار» عنه هــو، وبعده كتبت عن قضية المعاشــات، لكن حين كتبت عنه أتحدث عن قيمته في تاريخ النضال الوطني، إذا بالموبايل يدق لأجده على الناحية الأخرى. صرنا نتحدث كصديقين حميمين رغم قلة لقاءاتنا، وأكاد أضحك سعيدا بإحساسي بصوته الذي يملأ الفضاء. كنت أعرف ان أخبارنا لا تبتعد عن بعضنا. ضحكنا كثيرا وتحدثنــا كثيرا وتكرر الحوار مرة أخرى. مضت الأيام وأنا أعرف أن صحته لم تعد كما كانت من قبل، لكنه لا يتوقف عن الدفاع عن حقوق أصحاب المعاشات، حتى انتشر خبر وفاته. أخبرتني زوجتي مترددة. ولما رأتني ذاهلا قالت لي أكاد أســمع صوتــه حولي. كان الخبر مؤلما لــي جدا، رغم توقعه لكني تماســكت. عدت إلى الميديا وطــال الوقت حتى قفزت صورة جنازة البدري فرغلي في بور سعيد. لقد حضر الجنازة محافظ المدينة وكبار المســؤولي­ن حقا، لكن حشود الناس كانت هادرة بشكل لم أره في كثير من الجنــازات منذ وقت طويل. بدا لي أن بورســعيد كلها خرجت تودع ابنها الحميم. انتشرت الفيديوهات بأصــوات الناس تهتف لا إله إلا اللــه البدري حبيب اللــه. وتتالت التغريــدا­ت على تويتــر والتعليقات على الفيســبوك احتفالا واضحا بقيمــة الحق. تذكر الكثيرون رجالا مثل خالد محيي الدين وممتاز نصار وأبــو العز الحريري وقباري عبــد الله وعبد العظيم المغربــي وغيرهم، من أشــهر من عارضوا الســادات ومبــارك وتعليقات مثــل «الناس تعــرف اللي ليها» و«الناس تفرق بين الحقيقي والمســترز­ق» و«الشعب المصري عارف مين بيحبه ومــن لا» و«لما ربنا يوريك إن عملك في الدنيا مش حيروح» و«كلنا حنموت لكن إذا كنت حر تبقــي عايش، وإذا كنــت مش حر يبقى عمرك ماكنت عايش» و«مات قوم وما ماتت فضائلهم» و«كنت أتمني ان تنهض من مرقدك يا بطل وتطل على هذا المشهد المهيب» و«هل يتعظ الذين يملأون حياتنا بالكذب ويصدعون رؤوســنا بالهراء والنفاق» وغير ذلك كثير جدا.

توقفــت عند الجنــازة في هــذا الوقــت بالذات، وكورونا جعلت كل الجنازات تتم في سرعة، وشعرت بالحــزن لعدم قدرتي على الســفر، ليــس خوفا من كورونــا، لكــن لعدم قدرتــي على الحركة بســهولة منذ عام. شــغلت الجنازة كثيرا مــن رواد التواصل الاجتماعي، وأجمعوا على أن هذه الجنازة لم تتحقق لأحد مــن رجال الحكم، الذين يتحــدث عنهم الإعلام باعتبارهم شــخصيات مهمة بعد وفــاة عبد الناصر. أخطأ أحد المغرديــن ووضع صورة لجنازة أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش الجزائري التي جرت في ديســمبر/كانون الأول 2019 لكن سرعان ما تم تدارك الخطأ الــذي لم يكن وراءه غير مشــهد الزحام الذي أخذ بعقول الجميع. تم حذف تلك الصورة، لكن ظلت صوة جنازة البدري فرغلي الحقيقية في شارع واحد، ولا بــد أن هناك صوراً لها تتحرك في أكثر من شــارع باتســاع أكبر، لكنهــا لم تظهر لأن ما ظهر في شــارع واحد كان يكفي. مــاذا كان يمكن أن يحدث لو لم تكن كورونا والوباء؟

الآن والرعب مــن كورونا يحدث هذا الاحتشــاد في وفاة البــدري فرغلي. لولا كورونــا لزحفت مدن القنــال كلها على الأقل، ولقامت ســيارات من المثقفين والكتّاب من القاهرة والإســكند­رية ودمياط وغيرها. كان جميلا من محافظة بورسعيد أن لا تمنع الحشود بســبب كورونا أو غيره، ومن المؤكد أن ذلك لو حدث كان ســيثير الغضب الشديد. هل هناك درس من هذه الجنازة؟ أجل. وهو أن شــيئا لا يضيــع من الأعمال الطيبة، خاصة في عالم السياســة. مؤكد أن كورونا منعــت الكثيرين من حضور جنــازات كتّاب وفنانين رحلوا في الشــهور الماضيــة، وهذا لا يعنــي تقليلا منهم، فأفلامهم وأعمالهم وكتبهم باقية، يمكن الرجوع إليها والاحتفال بهــا بالرؤية أو القراءة، لكن ما فعله البدري فرغلي للناس لا تجده إلا ذكريات ســيحكيها الناس لأبنائهم، وستظل ســيرته عطرة في الفضاء، رغم أنه لم يتــرك كتبا ولا أفلاما. لقد واروا جســمه الثــري وعادوا بروحه ترفرف فوقهم وتمشــي معهم وصوته يمــأ الفضاء حولهم، وســيحكون لأبنائهم وأحفادهم إنه مــرّ من هنا نســر أو صقر كان ينقض على أعداء الناس البســطاء، ولا يســتطيع أحد كسر شــوكته. جنازة البدري فرغلــي كانت علامة على أن شيئا عظيما لا يضيع مهما تدهورت الأيام بالمصريين، وأن هناك ضميرا يســتيقظ رغم كل صــراخ وعويل من هم بلا ضمير. رحمــك الله يا بدري كنت من أجمل وأشــجع الناس، ســتظل روحك في ســماء الوطن وفضاء بورسعيد مقبرة الغزاة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom