Al-Quds Al-Arabi

البحر كان هناك

- ٭ شاعر من البحرين

■.... لــم يكــن العــرض مغرياً، قيل لــه: لــك أن تفتح ثغرة فــي الجدار. تطــل الثغرة علــى الصحراء الممتــدة حتى البحر. لــم يتــردد كثيراً. قال: ســأفتح الثغــرة. لم لا. هــذا أفضل من الجلوس تحت الدار.

وربما لن يأتي ســريعاً من يقبل هذا العرض. ومن المستبعد أن يتقدم أحد من تلقاء نفســه. أنا هنا في مواجهة خيار واحد فحســب. أن أفتــح الثغــرة في الجــدار، أو أفكر فــي فتح هذه الثغرة. العرض ليس مغرياً، لكن البحر.

ســمع حكايــات كثيــرة عن ذلــك البحــر، هو لــم يصل إلى هنــاك. لم يحاول. ولم يلتق بأحد اســتطاع أن يصل. حكايات كثيرة كانت مذهولة ببحر مثلــه. تخرج منه مخلوقات جميلة. تتكاثــر برشــاقة. لها أحــام مربوطــة بضفائر طويلــة مبتلة بالملح. صدّق الحكايات، لأنــه يحب المخلوقات البحرية. يزين بصورهــا جدران الغرفــة الصغيرة التي تطــل على الصحراء، بأحــداق صغيرة. يحاورهــا في الليل. ويتوقــع كل صباح أن تنتظــره عند البــاب. لم يكن باباً بالضبط، فهــو لا يفتح كثيراً، مــرة عند الصباح ومرة عند المســاء، وأحياناً كثيرة لا الصباح يأتــي ولا المســاء. عشــق الحكايــات الجميلة عن ذلــك البحر وتلك المخلوقات، صارت جزءا مــن تقاليد أحلامه ورؤاه التي تجتاحه إلى أن تصبب عرقاً. العرض الذي لم يكن مغرياً أغراه بالمغامرة. كيف يمكن لذلك البحر ذي الحكايات الشاســعة أن يأتــي من ثغــرة صغيرة مثل التــي.. لكن. لــم لا. ثغرة صغيرة يمكــن أن تكبــر، يمكن أن تصيــر أكبر من الجــدار ولعل البحر يأتي.

)2(

قيــل لــه أنــت الآن فــي الغرفــة الصغيــرة ذات الجــدران. أصدقــاؤك مشــغولون بغزل أشــرعة لســفنٍ مازالت خشــباً في الغابة. وزوجتك مربوطة في ســريرٍ فــارغٍ باردٍ وبأطفال كثيريــن. والغرفــة لا تســع أحلامــك. هــذه الصــور الجميلة لمخلوقــات البحــر كاد الغبــار أن يغطيهــا. تفــرغ جيوبــك في الليــل من قواقــع الوهم. وليســت لديك كتــب ولا كأس. افتح ثغرة فقــط. وبعدها يأتــي البحر إليــك. الأصدقــاء الذين في ورشــة الغزل تغمرهــم أشــرعة منصوبة علــى الأرض. ليس ســوى الأبيض الشــاهق وما لا يقاس من المحتمل. في الغرفة الصغيــرة ذات الجــدران لن تخســر شــيئاً. إذا تعثــر التوقع هناك احتمالات كثيــرة للتحقق. فقط افتح ثغرة. وســتغمرك الزرقة والملوحة وانتشــال صاعق للأصدقاء من السرادقات البيضــاء، التي اعتقــدوا بصالحيتها للإبحــار. ثغرة صغيرة أولاً. وبعد ذلك لك البحر كله.

)3(

رافقــه هذا الحلــم منذ أن خرج مــن تلك الغابة الشاســعة. مــرة التقى بأحد الأصدقاء. فأخبره أنه أوشــك على اصطياد الجنيــة التي تفزع أطفــال المدينة. تخرج فــي منتصف القمر، وتوزع الوجل على وسائد الأطفال. وبعدها لا يأتي النوم. قال له إنه أوشك على الإمساك بذيل ردائها. ولكن التعب أخذ منه. ركضت وركضتُ وراءها. لها رشــاقة النســيم وانسياب الماء مذعــوراً. تركض وأنــا ألهث وراءها كفــارس أرهقته الخيول. ولــم يدركه أحــد ليمد له يــد المســاعدة. لم يدركــه أحد. حتى أوشك على الصراخ.

عندها أخذته ووضعت رأســه فــي حضنها. وراحت تقص عليــه حكاياتهــا الخرافيــة حتى ينام. رأى نفســه فــي فوهة مدفــع، أو فــك حــوت أو يتأرجــح على خشــبة فــي الفضاء، وتحت قدميه الأرض بعيدة. بعيدة جداً لا تكاد العين أن تراها. لكنــه رأى قدميه تلبط باحثة عن شــيء لا يطــال. والعصافير تبني أعشاشــها علــى أكتافه الكســيرة، لم يكن يعــرف أن له أكتاف بهــذه الكثافة ومعجونــة هكذا. تذكر بعــض آيات من الكتاب. اســتحضر بعضها حيث كان يسمع أنها تبعد الخطر والخطيئــة. قال ســأقرأ. والجنية خارج النــوم تتأمل أحلامه الوحشية وأصابعها ترسم أشكالاً غريبة في شعر رأسه. رفع عينيه لأحد العصافير.

وكان مدججاً بأسلحة كثيرة. طلب منه أن ينقذه. استغرب العصفــور هــذه الأمنية. فحمــل صغــاره ورحــل. العصافير الأخــرى تنتظــر والجنيــة تتأمل. وهــو في الصلــب بين فكي الحوت وفوهة المدفع على شفير الحلم.

وفــي اللحظة التــي أطبــق الحوت فكيــه والمدفــع ينفجر. اســتيقظ أمــام ثغرة تكاد أن تصــرخ. كبيرة. أكبــر مما توقع. ثغرة شاســعة حتــى أنهــا اجتاحــت الســقف والأرض معاً. والبحر كان هناك. هناك في الأفق. بحرٌ قادمٌ. أقدامه مشــرعة فــوق الســرادق البيضــاء. يتقدم. ولــم يبق أمامه ســوى أن يصدق ذلك.

)4(

قيل له. لن تخسر شيئاً. ولم يخسر شيئاً.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom