Al-Quds Al-Arabi

أمام «الفعل النازي» وإعادة كتابة التاريخ: كيف يتناول الإسرائيلي­ون ما جاء في كتاب «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ بابيه؟

- ران أدليست

■ هناك مشــكلتان أساســيتان مــع التاريخ الوحشــي للنكبة كما يصفها البروفيســ­ور ايلان بابيه في كتابــه «التطهير العرقي لفلســطين». الأولى:كل شــيء صحيح، والثانية: ماذا في ذلك، كل شيء معروف. حتى وإن لم يكن بتفاصيل التفاصيل البشعة وبقوة كما توصف الأحداث وتؤرخ في الكتاب.

منذ العام 1937 كتب دافيد بن غوريون، زعيم إقامة الدولة «علينا طرد العرب وأخذ مكانهم». ومنذ ذلك الحين كان هو الرجل الذي أدار المنظومة السياســية وحملات الهاغناة والجيش الإسرائيلي التي قاتلت في سبيل إقامة الدولة في ظل تدمير مئات القرى وقتل وطرد مئات الآلاف. كل باحث أكاديمي صحافي مشارك وكل محبي تاريخ بلاد إســرائيل عرفوا وفهموا أن صراعاً دموياً لا هوادة فيه وقع هنا بين الشــعبين على كل الصندوق الذي هو أرض وديمغرافيا. وقال زعيم مبام مئير يعاري، إن «هذه حرب الحق ضد الحق».

يرد بابيه عليهما بإدارة تســجيل دراماتيكي ودقيق ومأساوي لكل قرية وبلدة أو حي فلســطيني في المدن المختلطة التي شُطبت، وقُتل سكانها وطردوا. 800 ألف لاجئ، 530 قرية، 11 بلدة وعدة مدن مختلطة مثل يافا وحيفا.

وحســب التاريخ الذي نتعلمه، عملت قوات الهاغناة والجيش الإسرائيلي حيال عدو قام عليها لإبادتها. هذا صحيح بالمعنى الذي يفيد بأن الفلسطينيي­ن لم يســيروا نحو الذبح كالخراف حتى رغم أن الجيش الإسرائيلي تفوق عليهم وعلى المساعدة العربية الهزيلة التي تلقوها من الخارج بكل مقياس عســكري، من القوى البشرية وحتى وسائل القتال. المشكلة أن الحديث لا يدور عن أحداث فظيعة جرت في ظل قتال، بل بنيّة مبيتة ومخططات قيادة الدولة، وتطهير للقرى خطط له مســبقاً، نفذت مراحله الأولى قبل وفي إطار حرب التحريــر. وكان الخوف الأولي أن ليس للدولــة اليهودية احتمال وجود )حتى بعد الموافقة على التقسيم( إذا كان للطرف الفلسطيني تفوق ديمغرافي ومزايا عســكرية في السيطرة على الأرض )مئات القــرى(. واذهب لتعرف اليوم إذا كان هذا تقديراً صحيحاً للوضع. عمليــاً، حرك هــذا الأمر بن غوريــون وقيادة الجيــش و»اللجنة الاستشــار­ية» التي وقفت خلف «ملفات القرى» التي أعدت مسبقاً، واســتخدمت لاحقاً للطرد والهدم الســريع. وكان في هذه اللجنة

بن غوريون، ويغئال الون، وإســحق ســديه، وإســرائيل غليلي، وموشــيه دايان، ويغئال يدين كل أبطال صبانا. وكانت الآلية أن كل رد عربي يشــكل رافعة لإيقاع ضربة وعملية رد تضمنت تطهيراً لقرية، وشــملت في كثير منها قتل نساء وأطفال. في إحدى جلسات الحكومة في أثناء حرب التحرير، نهض اهران تسزلينغ، من وزراء اليسار، وادعى بغضب بأن «جنوداً يهوداً يرتكبون أفعالاً نازية».

هذا هو الكتاب الأهم في تاريخ النزاع اليهودي الفلسطيني، لأنه لا يصدم القارئ فحســب، بل ويفكر ويسأل أسئلة مثل: هل كان بن غوريون محقاً؟ وكيف نواجه اليوم هذه المعرفة؟ وهل كانت ستقوم لنا دولة تؤدي مهامها كدولة يهودية، بدون الطرد، والسلب، والهدم والقتل؟ وهل الثمن الأخلاقي المدفوع يستحق إقامة الدولة بالحدود التي كلنا نتمتــع )بالتأكيد نتمتع( لمجرد وجودهــا؟ هل أفعال من هذا القبيل، بعد الحرب العالمية الثانية وعشــرات ملايين الضحايا القتلى واللاجئين، هي بالإجمــال جزء من الطقوس الدموية للعالم في حينه؟

من ناحية أخلاقية، الجواب كفيل بأن يكون وحشياً مثل الحرب نفســها، وهذا هو السبب الذي يجعل المجتمع اليهودي في إسرائيل يتملص منه. هناك الكثير من «ربما كان يمكن عمل ذلك» و»كنا عملنا بشــكل مختلف» والحقيقة هــي أن ليس لأحد جــواب واضح. ولا حتى لبابيه. يقال في صالحه إنه لا يخفي وهو يضع مرآة ســوداء أمام المجتمع الإســرائي­لي. لقد كان الرد كما كان متوقعاً، كسر المرآة وقتل الرســول، زائد هجمة إعلامية وأكاديمية. فقد طرد من جامعة حيفــا وهو يقيم حياة مهنيــة دولية مبهرة فــي بريطانيا «هذا هو الثمــن الذي دفعه» قال في مقابلة مــع «هآرتس». «هل أقول إن هذا يسرني؟ أنا لا أستمتع بذلك. أنا شخص أحب الناس، وأريد أن أكون محبوباً. ليس مريحاً لي مع هذا الموقف، موقف الكراهية تجاهي. أنا لا اتعايش جيداً مع هذا».

ما هو كفيل بأن يريــح عقل بابيه أن كتابه يمثل اليوم اليســار واليمين على حد سواء. وكل طرف يستخدمه لتبرير آرائه وأفعاله. فاليمين المتصلب ســيتبنى الكتاب كي يثبت بأن هكذا يمكن أن تقام دولة وتثبت. وأن كل ما يحصل اليوم في الضفة هو استمرار مباشر ودقيق لأعمال الآباء المؤسســن. أما اليساريون، المفعمون بمشاعر الذنب، فسيشــرحون بأنه إذا لم نعترف بـ «النكبة» والظلم الذي لحق بالفلسطيني­ين، فلا أمل في إنهاء النزاع.

بابيه نفســه يكتــب ويقول: «مجــرد الاعتراف بإعــادة كتابة التاريخ هو الخطــوة الأولى التي يتعين علينــا أن نتخذها إذا كنا نريــد أن نعطي فرصــة للمصالحــة». يدور الحديث عن ســذاجة يســاري وسيطرة أكاديمي. الحل الحقيقي لشدة الأسف ليس الحل الأخلاقي، بل الحياة نفســها، التي هي موازين القوى بين المصلحة الإســرائي­لية التي تمثلها حكومة إســرائيل وبين مصالح الأطراف الأخرى، من الفلســطين­يين وحتى العالم كلــه، والحل الوحيد هو الواقع. لا يوجد طريق في العالم لمنع إســرائيل والفلسطيني­ين من تأدية المهام والاختلاط معاً اقتصادياً وعملياً في العجنة الجغرافية الاســترات­يجية بين نهر الأردن والبحر. وبالتوازي، فإننا ملزمون بأن ننتظر إلى أن تتبــدد القيمة الوطني والدينيــة والميثولوج­ية لـ «الأرض كمصدر اقتصادي )باســتثناء الجانــب العقاري( أمام قيم مثل التعليم العالي، والعلم، والتجــارة، والتكنولوج­يا العليا والصناعة. إلى جانب انخفاض هــذه القيمة، يفترض أن ينخفض مستوى الاســتعدا­د، سواء لدى المستوطنين وشبيبة التلال أم لدى الطبقة الوســطى المدينية الفلسطينية لســكب الدم عليها. ستكون الزراعــة مصلحة تجاريــة وليس ســبباً لـ «الصمــود» وللحنين ولطقوس عبادة الأصنام على شــرف حجارة مقدسة تصبح مواقع للصلاة والسياحة.

هذه الســياقات ســتطفئ نار النزاع في تلك الوحدة الجغرافية الواحدة بين النهر والبحر )بما في ذلك تســويات فيدرالية ما( إلى مستوى محتمل لجيرة مقبولة.

يكتب بابيه أن «إســرائيل لن تعترف أبداً بحق عودة اللاجئين الفلســطين­يين» وهو محق. المســألة الإشــكالي­ة هــي كيف يطبق هذا، والجواب هو: لا يوجد احتمال. باســتثناء أولئــك الـ 70 ألفاً و»البادرات الإنســاني­ة» التي أطلقت في هــواء المفاوضات لباراك وأولمرت. سبق أن قال أبو مازن إنه لا يفكر بالعودة إلى صفد مدينة مولده، ولكن يطالب بالعودة إلى حدود 67. وماذا تعرفون؟ العالم كلــه يؤيد مطلبه. من زاوية نظر ما، فــإن التاريخ موضوع مخادع. فإقامة الدولة وحق العودة لليهود كانا مشــروعاً فرعونياً. الناس يأتون إلى الأهرام ويقولون واو! لا أحد يقول كم مساكين هم العبيد الذين بنوها. لــم يحاول الفراعنة الوصول إلــى القمر، بل حفظوا بقايا عبيدهم، وتركوا قبة الهــرم وأنهوا الأمر. حكومات اليمين في إسرائيل تبني اليوم أبراج بابل.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom