Al-Quds Al-Arabi

الشماتة والسخرية... بدائل أخرى للمقاومة في زمن الثورة المضادة

- *كاتب مصري

بدرجةٍ عاليةٍ من اليقين، نستطيع أن نقــرر أن دائرة الحمــاس التي صاحبت السيسي تنحسر، وأن الآمال الكبيرة والتصورات التي لا يحاكــي غموضها ســوى غموضٍ مماثــلٍ لمصدرها ومبرراتهــ­ا، تتبــدد يوماً بعــد الآخر، على وقــع الصعوبة المتزايدة للمعيشــة وتكلفتها، التي كانــت باهظة فأصبحت الآن لا تطاق.

فــي لحظةٍ معينة، فــي الفترة التي أعقبــت تنحي مبارك بــدا المســتحيل ممكناً، وآمن كثيــرٌ من الناس فــي إمكانية إحداثٍ تغييرٍ حقيقي، بقدر ما هو عميق يشــمل كل شيءٍ في حياتهم فيعدل الميزان، ويحسن في المقام الأول من أوضاعهم المعيشــية، ويفســح المجال أمام الحريات السياسية )وإن كنا نعتــرف بأن المهتمين بهــا أقل بكثير( ودرجــةٍ أوفر من الكرامة؛ آمنــوا بحكايةٍ كبيرة يســتطيع كلٌ منهم أن يكون طرفاً فيها، ناســجاً في خيوطها المتشعبة، التي لا حصر لها، من دون أن تكون لذلك تكلفةٌ باهظة، من ســجنٍ أو إعاقةٍ أو

موت، بما يشــرد ذويه في مجتمعٍ فاقدٍ للضمانات. لكن ذلك الحلم أو الوهم، لكلٍ أن يســميه ما شــاء، قد تبدد، فعاد كلٌ يراعي مصالحه الشــخصية، الفردية تماماً، متعايشاً متكيفاً مع الظروف، متحايــاً على الأوضاع مهما زادت قســوتها. لقد التفتوا إلــى الحكايات الصغيــرة، حكاياتهم الخاصة، وكثيرون شــعروا بالذنب والخجل من إيمانهم، ولو لوهلةٍ بسيطة، بسرديةٍ أو حكاية تحررٍ كبيرة.

والشــاهد أن النظام والواقع لم يمهلهم كثيراً، فالسيسي كضابــطٍ )أو بعقليــة صف ضابــطٍ بــالأدق( يحرص على إثبات كفاءته وأن «هناك شــغل» يؤمن بأن «الحركة بركة» فاندفع في مشاريعٍ كثيرة، من دون دراسة جدوى باعترافه الشــخصي المفاخر، وبالمثل فهو لم يمهلهم كثيــراً أيضاً، إذ انقــض عليهم ومن كل الزوايا يكيلهــم الفقر والإفقار فقرين أو ثلاثة، فجردهم بخطىً ســريعة من الدعم من ناحية، ومن الأخرى يحاول سحب ما تبقى في جيوبهم من جنيهاتٍ لعلها شحيحة في صورة ضرائب وأموالٍ مستحقة، تحت هذا البند أو ذاك، بدعوى تقنين أوضاعٍ تركت لتتفاقم وتصل إلى ما هي عليه اليوم، على مدى عقــودٍ طويلة، أي أن الحياة والنظام لم يبخلا على الناس بالحكايات الصغيرة لما فقدوا الأمل في خيرٍ من حكاية الثورة الكبيرة، فلا تجدن ثلاثة أســابيع أو شــهراً يمضي، من دون حدثٍ ما يزعج الناس ويكلفهم مالاً، ويثبت لهم مرةً أخرى مدى توهمهم في النظام الذي لم يخف انحيازاته الاجتماعية بطريقةٍ عمليةٍ ذات شأنٍ قط.

آخر الجلبة التي عاشــها الناس في الأيام الســابقة، كان نجومهــا الدولة وإعلاميين مــن نجوم التوك شــو؛ أما عن الدولة فبعــد تصريحاتٍ عــن ضرورة تحديد النســل، لم تلبث أن أصدرت تعديلاً على قانون الشهر العقاري الخاص بتسجيل ملكية العقارات، ما أثار قلقاً وغضباً وهلعاً بالغاً، لما يعنيه من مطالباتٍ بمبالغ طائلةٍ نســبياً، ومن ناحيةٍ أخرى ارتأى أن ينافق النظام، فعزا مدعيــاً أن أهالينا في الصعيد ينجبون بغرض التربــح من أبنائهم، إما بإرســال الصبية

للعمل في ورشــات الحــرف اليدوية، أمــا الصبايا فيعملن خادماتٍ فــي البيوت. بطبيعة الحال أثــار ذلك غضباً عارماً وانتقاداً لم يستطع المســؤولو­ن حياله إلا إيقاف المذيع، بيد أن إعلامياً آخر لعله الأشــهر عمرو أديــب، تعرض لحادث ســيرٍ مروع فنجا بأعجوبة على ما يقولون، وبطبيعة الحال أيضاً تناقلت وســائل الإعلام ســيارته المحطمــة، ولم يكن من الصعب تبين ســعرها الذي يصل قرابــة الأربعة ملايين جنيه على ما وصلني، ومن ثم التســاؤل عن الراتب المذهل الذي يتقاضاه. هل من المدهش أن يشــعر الكثيرون بأن ثمة حصاراً أو طوقاً مفروضاً عليهم؟ فمن ناحيةٍ تترســخ قناعةٌ بأن هذا النظام وحكومته لا هم لديهم ســوى جباية الأموال والاســتيل­اء على كل ما فــي جيوبهم، إنها منحــازة طبقياً ضدهم ولا يهمها إلا الطبقــة المخملية، التي يركب إعلاميوها المعبرون عنها ســياراتٍ بملايين الجنيهات، بينما يدعونهم لتحمل الفقر من أجل مصــر ويهينونهم، وهل من الدهش أن يشعر الناس بالشماتة لدى مصاب أحدهم، أو يسخر من كل هذا الوضع العبثي؟ ما الذي تبقى أمام الناس سواهما، أمام نظامٍ يتمترس وراء أسلحةٍ فتاكة ولا يتورع عن استخدامها لأتفه سبب؟

لديّ قناعة بأن الناس يعيشــون الآن فترة انقشاع الوهم الذي بنوه، مدفوعين باليــأس والإحباط من تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، أراد الناس تصديق السيســي؛ ساعده كثيرون طوعاً )على الأقل في البدايــة( باختيار التصديق، وبينما طفق هو يرمم النظام وأجهزة الدولة، وعلى رأســها الأذرع الأمنية، رمموا هم أوهامهم عــن مصر ومكانتها التي يتصورون، ويؤمنون بأنه حقٌ أو عنايةٌ إلهية تعهد بها مصر، ولم يكن السيســي ونظامه في حاجةٍ لأكثر من ذلك: الوقت والتسليم؛ بيد أن الانحيازات الاجتماعية والاقتصادي­ة هي هي، لم تتغير منذ البداية، ولا يحتاج المرء لأكثر من مراجعة الإجراءات والتصريحات. من اللطيف والمدهش في آنٍ معاً، أن ينعى بعض مدعي التقدم على الناس مشاعر الشماتة تلك

في عمرو أديب، أو أي ممثلٍ للنظام يتعرض لحادثٍ أو كارثة؛ كنت أظن أن مهمــة المثقف الأولى ومســؤوليت­ه هي الفهم، وعلى صعيدٍ آخر، من يملك حق اعتلاء منصة الأخلاق ليعظ الناس ويوبخهم وينتقدهم وينعى عليهم غياب الأخلاق في وضعٍ برمته بذيء؟

لا يحق لأحدٍ لم يكتو بنار النظــام، لم ينزف أو يتألم، لم يخسر عزيزاً أن يوجه الغاضبين و الشامتين أو يزايد عليهم. إن حقبة الثورة المضادة، علــى دمويتها، تظل فترةً رماديةً وباهتة، تتســاقط فيها ورقة التوت شــيئاً فشــيئاً، ومعها غشــاوة الوهم التي اختارها الناس أو رضوا بها، ولا بد أن يصاحب ذلك الغضب الذي قد يعبر عن نفســه بالشماتة هنا والســخرية هناك. لم يصل الناس بعد للمقدرة على الثورة، فهم مرهقون وتجربتهم السابقة في غياب تنظيمٍ ثوري غير مشــجعة، وملأى بالإحباطات، وعلى ذلك تصبح السخرية والشــماتة وســائل مقاومة، وإن عدها البعض سلبية؛ بيد أن نماذج عديدة في التاريخ تعلمنا أن أول لحظات ســقوط النظام هو الغضب المكتوم الذي يعبر عن نفسه بالاستخفاف والســخرية. ربما لا يحب النــاس أن يعترفوا بالشــماتة، لكنه القمع يمســخ الأرواح ويخرج من الناس أسوأ ما فيهم، يصيغهم في قوالب قــد لا تروق لهــم ولا ترضيهم. لا يعني ذلك أنني أعفي الناس من أي مســؤولية، أو أضع تصرفاتهم فوق المساءلة أو محل قداســة، على العكس تماماً، وغاية ما هنالك أنها محاولةٌ للفهم وقراءة المؤشــرات. في يقيني إنهم بشكلٍ أو بآخر أسهموا في خلق هذا الوحش طمعاً في حلولٍ فردية، وها هو ذلك المسار يثبت فشله ويؤكده يوماً بعد آخر. عاجلاً أم آجلاً ســيضطر الناس لمواجهة الواقع عارياً تماماً، سيتعلمون، وســيدركون أن الخلاص الفردي وهم الأوهام، وأنه لا مخرج ولا بديل إلا في مسارٍ جماعي وتغيير النظام.

لا يحق لأحدٍ لم يكتو بنار النظام، لم ينزف أو يتألم، لم يخسر عزيزاً أن يوجه الغاضبين والشامتين أو يزايد عليهم

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom