Al-Quds Al-Arabi

ضد جائحة التطبيع

- *كاتب مصري

قبل أيــام، جــرى عقد مؤتمــر لافت فــي بيروت عبــر تقنية «زووم» شــارك فيه مئات المثقفين والناشــطي­ن من أغلب العواصم العربيــة، وبصورة فاقت توقع الداعين المبادرين، حمل المؤتمــر الافتراضي عنوان «متحدون ضد التطبيع» وبدا كاســتطراد لمؤتمرات واقعية ســبقت في العاصمة اللبنانية، حملت شــعارات من نــوع «متحدون ضد صفقة القرن» في إشــارة لرفض ما كان يســمى خطة ترامب للســام، التي يحافظ الرئيس الأمريكــي الجديد جو بايدن على عناصرهــا الكارثية الأساســية، في مــا يخص القدس وضم الجولان واتفاقات إبراهــام، وإن عاد إلى معزوفة «حل الدولتين» التي لا تعدو كونها قناعا قديما جديدا لخطة دونالد ترامب سيئة الذكر.

وبالطبع، لا يملك عربي صادق، ســوى أن يستبشــر خيرا بمبادرة «متحدون ضــد التطبيع» وإن كان دعاتها والمبادرون إليها، حســب ما نشــر منســوبا لبعضهم، يلجــأون أحيانا إلى مبالغات، مــن عينة أن مؤتمرهم الأســبق «متحدون ضد صفقة القرن» ســاهم في إســقاط ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو خطــأ لو تعلمون عظيم، فالولاء لإســرائيل، وجعلهــا قدس الأقداس، هو نقطة اتفاق مطلق في السياســة الأمريكية وأحزابها، وترامب لم يســقط طبعا بســبب «صفقة القرن» بل لأســباب أمريكية داخليــة، كالخلاف حول نزعات الكراهية والعنصريــ­ة، وأوضاع الاقتصــاد، وأزمات انعدام المساواة، وبسبب الفشــل الذريع في مواجهة جائحة كورونا

وغيرها. ومن دون شبهة خلاف بين بايدن وترامب في أولوية مصالح ومطامح كيــان الاحتلال الإســرائي­لي، إضافة لكون بايدن معتزا، كما قال بصهيونيته، وحريصا على ملء مناصب إدارته الخارجية باليهود الصهاينة، ولهم فيها نصيب الأسد، وعلى رأسهم «أنتوني بلينكن» وزير الخارجية .

مــا علينا، الأهم أن دعــوة «متحدون ضــد التطبيع» تبدو في محلها تمامــا، وهدف بلورة حركة شــعبية عربية مقاومة للتطبيــع أو «التتبيع» ما يســتحق الحماس لــه، وبذل غاية الجهد من أجله، فقد تفشت خطايا التطبيع، وصارت «جائحة سياســية» فوق كونها عارا، وصرنا إزاء ست حكومات عربية خارج فلسطين المحتلة، تقيم علاقات رسمية مع كيان الاحتلال، ويتحالف بعضها معه، مــع احتمال انضمام حكومات مضافة، فوق تفشــي العدوى نفســها في دول العالم الإسلامي بعامة، التي يقيم الكثير منها علاقات «طبيعية» مع إســرائيل، وهو ما يعني اتســاع الخرق على الراتــق، خصوصا مع غلبة علاقات التبعيــة المزمنــة لأمريكا، راعيــة كيان الاحتــال، وصحيح أن حكومات عربية ســبق أن طبعت مع إســرائيل، ثم قلصت العلاقــات أو أنهتها ظاهريا، وتحت ضغــط حوادث الحروب والمجازر ضد الفلســطين­يين، لكن الجديد المؤســى المخزي، أن أغلب حكومــات العرب اليــوم، فقدت أو كادت حساســيتها الســابقة في تغليب الهم الفلســطين­ي، رغم اســتمرار تداول عبارات تصف العذاب الفلسطيني بقضية العرب المركزية، على حد ما يرد في البيانات المستنســخ­ة لاجتماعات جامعة الدول العربيــة، أو في بيانات قرينتها «منظمة التعاون الإســامي» ومــن دون أن يصدق عاقل بيانات الحكومــات إياها، فأغلبها تتســابق إلى تطبيع وتوثيق علاقاتها بإســرائيل، إما لكسب قلب أمريكا، عبر محبة تل أبيب، أو الاستعانة بإسرائيل ذاتها ضد أعداء يرونهم أكثر خطرا على عروشهم، على طريقة إحلال إيران محل إســرائيل في أولوية العداوة، أو حتى الادعاء بأن العلاقات مع إســرائيل، قد تفيد الفلســطين­يين في مفاوضات «حل الدولتين» مع ضعف موقف «السلطة الفلسطينية»عموما في الحال والاســتقب­ال المنظور، وكلها دواع مرئية، تخلق بيئة مواتية لانتشــار جائحة التطبيــع عند الحكومــات العربية المشــتتة المعلقة، المفتقدة غالبا لدعم شــعبي يسند وجودها، والمشــغول­ة بمواجهــة شــعوبها لا بمواجهة كيــان الاحتلال الإســرائي­لي، وهو ما يضفــي وجاهة على الفكرة البســيطة القائلة، إن التطبيع شــأن الحكومات المتورطة أو الغارقة فيه، وإن مقاومة التطبيع شعبيا هي الحل الممكن في المدى المنظور، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.

والمقاومة الشــعبية للتطبيــع، لا تبدأ من فــراغ، فقد مرّت نحو 42 ســنة على أول معاهدة سلام عربية إسرائيلية، وعلى أول تطبيــع حكومي من طــرف عربي، فقد عقدت ما تســمى «معاهدة الســام المصرية الإســرائي­لية » عــام 1979، وجرى تبادل العلاقات الدبلوماسي­ة بعدها بعام، ثم أضيفت علاقات اقتصادية، لايزال بعضها متصــا كاتفاقات «الكويز» والغاز، لكن العلاقات ظلت مقطوعة تماما على الصعيد الشعبي، وظل التطبيع وصمة وخطيئة، وجريمة ســالبة لشــرف المتورطين فيها، ومقبرة يخشــى الميالون للتطبيع من الدفن فيها، وعلى طريقة ما جرى مؤخرا من تراجــع المطرب المصري محمد منير ســريعا عن الذهاب للغناء في القدس المحتلة، وقبلها نوبات «تجريس» فنــان مصري آخــر، لمجرد أنه تــورط بمصافحة إسرائيليين في «دبي» وتعرض بسبب «الجريمة» لنبذ شعبي واســع، بل عاقبه مواطنون مصريون تلقائيا بالإيذاء البدني المباشر.

وهذه ليست حالة عصاب نفســي، بل هي تعبير عن وعي راســخ وحيوية فائقة للشعب المصري، الذي يمثل وحده نحو ثلث شعوب الأمة العربية كلها، وقدّم في الحروب مع إسرائيل أكثر من مئة ألف شــهيد وجريح، وظل جيشــه إلى اليوم على عقيدة العداء لكيــان الاحتلال الإســرائي­لي، وأبدت طلائعه الوطنية بســالة متصلة ضد التطبيع المفــروض، وبرزت في المعركة ضد التطبيع أســماء لأبطال وشــهداء عظــام، بينهم ســعد إدريس حلاوة وخالد جمــال عبدالناصر ومحمود نور الدين والجندي ســليمان خاطر والجندي أيمن حسن وأحمد الشحات وغيرهم كثير، وذهب مئات المثقفين مرارا إلى غياهب السجون، بسبب رفضهم القطعي للعلاقات مع العدو، ونجحت تضحياتهم الجليلة في قطع دابر التطبيع المرئي شعبيا، وصولا إلى حرق السفارة الإسرائيلي­ة غرب نيل الجيزة أواخر 2011، وانزواء السفير الإسرائيلي من بعدها، في محل إقامة معزول أمنيا بضاحية المعادي، وحيدا لا يزور ولا يزار، وقد لا يتســع المقام لإيــراد تفاصيل أكثر عن ملحمة الشــعب المصري، وهي أبلغ وأعظم التجارب الشــعبية العربية في مقاومة التطبيع، وكثير من روحها انتقل للأردن بعد عقد معاهدة «وادي عربة» 1994، خصوصا مع قوة المورد السكاني الفلسطيني في البنية الشــعبية الأردنية، وبما صنع سوابق ملهمة لأي سعي شعبي آخر لاحق، فهي المثال الواقعي المجسد لمعنى مبادرة «متحدون ضــد التطبيع» فليس المطلــوب مهرجانات خطابــة وتنديد، ولا بيانــات منابــر ومقابر، إنما عمل مــدروس، يتقبل وجود خلافات لا تنتهي بين التيارات والأحزاب والهيئات والنقابات

في كل شيء وأي شــيء، إلا باســتثناء الموقف المنحاز تماما لقضية الشــعب الفلســطين­ي، والرافض لأي تطبيع مع العدو الصهيوني، فالصــراع معه قضية وجود لا تســويات حدود، ومــا تفعله حكومات التطبيع لا يلزم الشــعوب، وقد كان ذلك دستورا ساريا لحركات مقاومة التطبيع الأولى، ويستحق أن يبقى كذلك في مبادرة «متحدون ضد التطبيع» وغيرها.

وقد لا يصح إنكار وجود عقبات مضافة مع تلاحق الثورات المحبطة في السنوات العشر الأخيرة، من نوع تفاقم الخلافات واحتدامها بين الفئات والتيارات الشــعبية العربية، وتحولها إلى مفاصلات وحروب دم في عدد من الأقطار العربية المركزية، وهو ما يؤثر ســلبا بالطبيعة على أي جهد مشترك جامع ضد جائحة التطبيع، وهــذه حقيقة ووضع مقبض، يمكن تجاوزه بتنزيه قضية فلســطين عن أي خلاف فكري أو سياسي، وعن أي حــروب أهلية جارية في أي قطر عربي، وهذه مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، ومما قد يجعلها ممكنة أكثر، أن تساعد فيها الحركــة الوطنية الفلســطين­ية ذاتها، بوقــف احتراب فصائلهــا، وبتوحيــد خطابها السياســي، وبابتعادها الكلي عن الصراعات والخلافــا­ت الجارية في باقي الأقطار العربية، وبتركيزها المطلق الوحيد على اســتعادة الحق الفلسطيني، ورد الاعتبار لفلســطين كقضية تحرير وطني، واتباع ســبيل المقاومة الشــعبية والمســلحة أولا، وهو الطريق وحده الذي يحيي القضية الفلســطين­ية، ويثير الالتفات الشعبي العربي إليها، ويشــجع التيارات الشــعبية العربية علــى القفز فوق خلافاتها، والاجتماع حول قضية فلســطين مــن جديد، وبما يجعل لحــركات مقاومة التطبيــع هدفا ملموســا، هو إعادة بناء جدار المقاطعة العربيــة للعدو الصهيوني، وصوغ تكامل تلقائي محسوس بين المقاومة في فلسطين والمقاطعة الشعبية في عموم العالم العربي، وتجديد قداســة فلســطين في ضمير ووجدان العرب بعامة، وممارســة ضغط فعلي على حكومات التطبيع، واســتبدال أحــوال الركود القاتــل للوجدان، التي راكمتها مقامرات وأوهام الركض وراء سلام بائس وتسويات مذلة، يتخذهــا التطبيعيــ­ون تكئة للترويــج لانصراف عام عن الاهتمام بالقضية الفلســطين­ية، واعتبارها شــأنا يخص الحكومة الفلســطين­ية لا ســواها، فخيار المســاومة ـ باســم المفاوضة ـ يميت القلوب، وخيار المقاومة وحده يحيي المقاطعة النبيلة، وباسم الشعوب الأبقى من حكومات الزوال.

الولاء لإسرائيل، وجعلها قدس الأقداس، هو نقطة اتفاق مطلق في السياسة الأمريكية وأحزابها

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom