Al-Quds Al-Arabi

عرب اليوم أو معجزة العجز عن التعبير!

-

■ اختيــار الضيــوف مســألة، أو مشــكلة، لا مناص لمنتجي النشــرات والبرامــج الإخباريــ­ة التلفزيــة مــن معالجتها كل يوم، بل كل ســاعة. وتشــترك جميــع القنوات في محاولة اختيــار الضيوف بناء على صلتهــم بالموضوع، إما من ناحية التمثيل السياســي أو الاختصاص العلمي أو العملي. على أن للقنوات الإخبارية العربية في هذا الشــأن مشــكلة إضافية لا تعرفها القنوات الغربية: إنها مشــكلة مدى قدرة الضيف على التعبير. ولهــذا يكفي أن يقول أحدهم في غرفــة التحرير «فلان لا يجيــد الحديث، لقد جربنــاه من قبل» حتى يكون ذلك ســببا لإسقاط اسمه فورا وبدء الاتصال بضيف غيره.

بمــاذا تتعلق هذه المســألة؟ بأمرين على الأقــل. الأول هو أن العيّ، أي العجــز عن التعبير، ظاهرة منتشــرة عندنا. ولا ذنب للعييّ، بالطبع، في هــذا العيب الذي قد يصيبه منذ الصغر )ولو أنه مختلــف عن عيب التلعثم والتأتأة، فهــذا قابل للعلاج مثلما صار معروفا من ســيرة جو بايدن ومن تشــجيعه الأبوي لذلك الصبي في نيوهامبشــ­ر(. الأمر الثاني هو علاقتنا بالفصحى أو ما يســميه نزار قباني باللغة الثالثة )بين الكلاسيكية والعامية( وناصر الدين الأســد باللغة الفصيحة )أي السليمة(. إنها علاقة إشــكالية بالنســبة لمعظم العرب. ذلك أن معضلتنــا لا تنحصر فــي الازدواجية اللغوية )بــن العربية والفرنســي­ة في المغرب العربي طيلة أكثر من قرن، وبــن العربية والإنكليزي­ة في بلدان الخليج منذ حوالي عقدين أو ثلاثة( بل إنها تشمل أيضا ما سماه رائد الدراســات اللســانية في تونس المرحوم صالح القرمادي بـ«الثنائية اللغوية» بــن الفصحى والعاميــة. وأذكر أن المثال الذي دلّل به على مفارقات واقعنا اللغــوي المركّب المعقّد هذا هو أن الطفل التونســي يعرف «السردوك» لكن ما إن يدخل المدرسة حتى يقــال له إنه ديــك، وإنه )بالفرنســي­ة) «كــوك». وهذا ما صوّره المسلســل التونسي الشهير «شوف لي حل» في مشهد «أم السبوعي» لما عادت من أول يوم لها في دروس محو الأمية لتروي لجارتها العرّافة، بغبطة طفولية، كيف أنهم علّموها أن «السردوك اســمه ديك والجرمانة اســمها بطّة، إلا البقرة فإنها تبقى بقرة»! فإذا بالعرّافة تعرب عن دهشتها من عجب ربي!

ذلــك هو الواقع: العامية هي اللّغة الأم لأنها لغة الأم. وقد تأكد الواقع )الإنســاني بإطــاق( مجددا عندما تزامــن إحياء اليوم العالمي للّغة الأم مع انطلاق ســيل التعليقات حول الأداء اللغوي للرئيس قيس سعيّد. إذ لم يعد الأمر يقتصر على استهجان عامة التوانســة للكلام الإنشائي المتعثر الذي لا يزال سعيّد مصرّا على الحديث بــه )والذي يخالــه بعضهم فصحى( فحســب، بل إنه أصبح يشمل استياءهم من أدائه المتواضع بالفرنسية لّما استقبل، الثلاثاء، سفراء الاتحاد الأوروبي. ولقد فوجئت أن التوانسة لم يكتشــفوا غرابة الأمر إلا الآن رغم أنها كانت واضحة منذ زيارة ســعيّد إلى باريس عام 2020. بل إن دلائلهــا لاحت لي قبل ذلك لما شــاهدته في نشــرة أنباء التلفزة السويســري­ة أثناء الحملة الانتخابية عام 2019. قلت آنذاك لمن حواليّ إن أي سويسري رأى أستاذ الجامعة ينطق )بالفرنسية( فلا يكاد يبين، لا بد أنه تساءل دهشا: إذا كان هذا هو مستوى الأستاذ، فكيف إذن بالطلاب؟!

إتقــان اللغات الأجنبية ليس فرضا. لكــن احترام الذات يلزم كل من يتطوع للحديث بلغة أجنبية أن يكون متأكدا أنه يستطيع أن يتكلمها، إن لم يكن بطلاقة فعلى الأقل بسلامة. هذا هو واجب أيّ كان، فمــا بالــك به إذا كان رئيــس دولة لا يــرى فيه العالم مجرد شخص يمثل نفســه، بل قائدا يمثل شعبه وأمّته. لهذا كان الشــعور الذي يخامرني كلما ارتجل الزعيــم عرفات رحمه الله تصريحا بالإنكليزي­ة هو التالي: كنت أتمنى لو أنه التزم العربية وأوكل النقل للمترجمين، فذلك أحفظ للقدر وأنسب للمقام وأليق بالقضية. وإنه لمن المحبط حقا أن يغفل أمثال عرفات وســعيّد عن هذا الأمر البديهي، بينما يتفطن إليه أمثال حافظ الأسد وبن علي! فالأول لم يكن يتنطع للحديث بالإنكليزي­ة. أما الثاني فقد كان مقلّا في الكلام لأنه يعرف أنه لم يؤت مهارة التعبير، ناهيك عن موهبة الفصاحــة. ولهذا كان يقتصر على قراءة الخطب المدبّجة بعناية، كما كانت تصريحاته بالفرنسية نادرة لكن سليمة.

والحقيقة الأعم هو أننا، عرب هذا الزمان، نعاني مشكلة العجز عن التعبير حتى بالعاميــة. إذ إن العاميات لغات حية، لكل منها عبقريتها وشــعريّتها، لكن كفاءة أجيال اليــوم في التحدث بها أضعف من كفاءة الأســاف. كما يبدو أننــا افتقدنا مجرد القدرة على التبليغ، أي التعبير بما قلّ ودلّ. ويكفي لإدراك ذلك مشاهدة ما يســمى بالـ‪vox pops‬ ، أي ما يرتجله الناس في الشــوارع من أجوبة على أســئلة الصحافيين. عنــد الأجانب عموما أجوبة مباشــرة بجمل مفيدة. أما مــا يغلب عندنا فــكلام تقريبي مكرّر مبعثر… وبما أن هذا الفشــل الذريع يحدث في عقر بيت العامية، أي في صلب لغة أمنا التــي رضعناها مع لبنها، فإنه يصح القول بأن العجز اللغوي قد ارتقى عندنا مرتقى المعجزة!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom