Al-Quds Al-Arabi

كلمة ختامية عن ما جرى لثورة يناير 2011

- ■ ٭ كاتب من مصر

مع نجــاح الرئاســة المصرية ودوائرهــا وأنصارها من رموز الثورة المضادة في مصــر وخارجها؛ مع نجاحهم في اغتيــال ووأد ثــورة 25 يناير، وكانــت مصر قد لحقت بتونس، التي بدأ حراكها في نهايات 2010 وسرعان ما امتد لمصر في ينايــر 2011 وتميز ذلك الحراك في بداياته بأقصى درجات الانضباط والبــراءة والتلقائية والوعي، والحفاظ على الطابع الســلمي له، ورغم ذلك تمكنت الثورة المضادة بسرعة من الاحتماء بالمجلس العسكرى الأول بقيادة المشير طنطــاوي، وتمكنت أكثــر أثناء حكم الإخــوان، وأضحت متربصــة مع حكم عدلــي منصــور المؤقت، ثــم ترعرعت باحتضان المشير السيسي.

أحكمــت الثورة المضــادة قبضتهــا الحديدية، وخلطت عن عمد بين الثورة والفوضــى، وزادت من وتيرة الملاحقة وتوجيه التهم المرســلة بســبب وبدون ســبب، فامتلأت الســجون والمعتقلات بالثوار والنشــطاء، الذين جرفتهم دوامة «التأديب والانتقام والتضيق» الثلاثية لاستئصالهم، في نفــس الوقت اســتمر العمــل بثلاثية مبــارك وولده «الاســتبدا­د والفساد والتبعية» كأســاس لاستمرار تنفيذ مخطــط الإفقــار الممنهج؛ ورُفِــع الدعم بالكامــل، وغرس «صنــدوق النقد الدولــي» مخالبه في أحشــاء المواطنين، واســتفحلت الجباية، وبــدأت الطبقة الوســطى، ومعها المنتجون والفلاحون والعمال والحرفيون وصغار الكسبة؛ بدأت في الهبوط الســريع إلى خــط الفقر أو الوقوع تحته، مع عجز الحكم عن توفير أساســيات الحياة، وزاد الوضع تأزما بتعويم العملة الوطنية. وتدنى معه مستوى المعيشة، وكانت الطامــة الكبرى قــد وقعت بالتوقيع علــى «اتفاق المبادئ» من طرف «المشــير السيســي» عن مصر، و«المشير عمر البشير» ممثلا للســودان، ورئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد عن إثيوبيا؛ إتفاق أضــاع حصة مصر من مياه النيل، واســتمر التفاوض غير المجــدي في مواجهــة خطر يهدد الوجود المصري، وبتعامل «المشير السيسي» مع إثيوبيا من منطق التعاون في تثبيت الأمر الواقع، وهذه طامة كبرى قد تنبه الغافلون إلى المصير المنتظر!!.

ومع ذلك يتمادى «المشــير» في توجيه الإهانات لعموم المصريــن والتقليل من شــأنهم، وكل ذلك مســجل صوت وصورة في كلماته ودردشــاته وانفعالاتـ­ـه في لقاءاته مع

شبابه المشمول برعايته، ولم تتوقف الإهانات ولا الكلمات والعبارات الجارحة؛ وذلــك لمجرد أن يبدي أحد رأيا ويقدم اقتراحا لايعجب «المشــير» فيصبح مــن العناصر العاملة على هدم الدولة، وشــمل ذلك الوصف الغالبية العظمى من الشــعب العريق، وينسى أن الشــعب هو الباني والحامي والمدافــع والمحافظ على أرضــه وعرضه ودولتــه على مر التاريخ.

وهذه ســطور نختم بها ذكرى مرور عشــر سنوات على ثــورة يناير، وتخلي حســني مبارك وولده واســرته عن الحكم؛ علينا إعادة الاعتبار لسلامة وصدق أهداف ومطالب ثورة يناير، التي لم تتمكن من حكم، ولم تشــارك في قرار، ولــم تجد تقديــرا ممن مكنتهــم من الجلوس علــى مقاعد الســلطة والحكم، وما يفعله «المشــير» هو استمرار إطلاق العنان للثورة المضادة وتمكينها،

وكان من الممكــن تحويل شــعارات الثــورة ومطالبها إلى برنامج عمل ومشــروع وطنــي، إلا إن ثقافة ومصالح الممســكين بزمام الحكم تحول دون ذلــك، فهم لا يعرفون إلا الهرولة صوب عواصم الثورة المضادة؛ في واشــنطن وتل أبيب والرياض أبو ظبي، والمشــكلة هي عــدم التمييز بين المقاولات والمقاولين وبين المفكرين والساسة والاقتصادي­ين والمخططــن والخبراء في المجالات المتنوعــة، فعمل المقاول يتكفل بشــراء الزلط والرمل والطوب والأسمنت والخشب وغيره؛ هذا فهم قاصــر وفكاهي وكاريكاتيـ­ـري نقيض ما يحتاجه المشــروع الوطني من خبراء وأكاديميين ومفكرين ومن على شاكلتهم؛ غياب كل هؤلاء أدى لاختفاء المشروعات الوطنية والقومية الحقيقية!!.

عُرِفت ثورة يناير بأهدافها ومطالبها الواضحة؛ مختزلة في شــعارات وهتافات كان من الواجب صياغتها في وثيقة تكون أساســا للعمل الوطني، وتملك مصر رصيدا كبيرا في هذا المجال؛ جعل من مبادئ ثورة يوليو الستة محفزا لكتابة فلسفة الثورة، وكانت الوحدة السورية المصرية، والانقلاب عليها، وفصل ســوريا عن مصــر؛ كانت حافزا لتأســيس «المؤتمر الوطني للقوى الشــعبية» وإصدار «ميثاق العمل الوطنــي» كدليل عمل مدته عشــر ســنوات، وكان المأمول خروج ثورة يناير بوثيقــة جامعة معبرة عنها وعن رعاتها وشركائها وعن من ضحوا من أجلها،

والخلط بين المشــروع الوطني ومقــاولات المعمار، التي تنفذها شــركات المقــاولا­ت والبنــاء دون رؤيــة، وأغلب المسؤولين فيها لا يفرقون بين المشروع الوطني والإنشاءات الســكنية والإداريــ­ة والتجارية والطــرق والكباري وبين المشــروع الوطني، وكان الســد العالي مشــروعا عمرانيا تنمويا؛ الأهم والأعظم في القرن العشــرين، حســب تقرير «الهيئة الدولية للسدود والشــركات الكبرى» الذي «وضع السد العالي في صدارة كافة المشروعات، واختارته الهيئة الدولية كأعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين.» وتلك شــهادة هندسية مســتحقة، لكنها لم تعبر عن الدور المركزي الذى لعبه الســد العالي فــي تاريخ الكفاح العربي المعاصر.

وكان الســد العالي جــزءًا من مشــروع وطني وقومي أشمل، وكان مشــروعا عاما للمستقبل؛ عند المقارنة إذا كان السد العالي من تجليات مشروع التغيير الوطني والقومي الأكبر والأشمل، فإن مشروع «العاصمة الجديدة» مثلا يأتي خارج السياق؛ كمشــروع شخصي تنفذه شركات المقاولات والهيئة الهندســية بالقوات المســلحة، وذلك للتخديم على طُبَيْقَة )تصغيــر طبقة( محدودة للغاية؛ قوامها أباطرة مال وأعمــال وكبار جنرالات شــرطة وجيــش وموظفي دولة، ويتكلف أضعاف تكلفة السد العالي، ومردوده محدود؛ إذا كان له مردود أصلا، والسد العالي غطى تكلفته في سنوات معدودة!!.

وتكفلت القيمة الشــاملة والمضافة لقــوة مصر والعرب بدحض الحمــات التي نادت بهدم الســد والتخلص منه، وفي النهاية تم تســليمه لخبراء أمريكيين للصيانة حاليا، وســبق لآبائهم أن ضغطوا على «المصرف الدولي للإنشاء والتعمير» حتى ســحب موافقته على تمويله، وبالقطع لن يكونوا أفضل، وصيانتهــم لن تكون آمنة أو أمينة!! فمعركة الســد العالى كانت أحد معارك حرب حقيقية شــاملة ضد مصر وشعبها وأمتها.

وعن ماهية المشــروع الوطني أو القومي أو الأممي نعود إلى المشــروعا­ت التي طُرحت على العالــم، وتناولها المفكر المغربي الراحــل محمد عابــد الجابري، وكانت مشــاريع ثلاثة طُرِحت من أكثر من قرن: 1( مشــروع حداثة أوروبية ذات وجه استعماري مغاير لما بشــرت به أوروبا من حرية

وتقدم وسلام ورفاه لشعوبها والعالم. 2( مشروع اشتراكي أممــي؛ انطلــق من روســيا القيصرية قبيــل ثورتي 1905 و1917. 3( مشــروع صهيونــي؛ عدوانــي عنصري ووجه للحداثــة الأوروبية، وانتقــل من الحضــن الأوروبي إلى التبني الأمريكي.

وبــدأت إرهاصــات «المشــروع العربي» بعــد الحرب العالمية الثانية، وظهور حركات التحرر العربية والافريقية واللاتينية، وخرج الاحتلال من مصر والســودان وتونس والمغرب والجزائر، وفي ربع القرن الأخير، وجد «المشــروع العربي» اهتماما، ولعب «مركز دراســات الوحدة العربية» دورا كبيــرا فــي صياغة «المشــروع النهضــوي العربي»؛ كمشروع حضاري عُرِض على «المؤتمر القومي العربي» في دورته الحادية والعشــرين ببيروت في 2010، وارتكز على أهداف ومطالب ستة:

أولا: الوحدة العربية، في مواجهة التجزئة بكل صورها القطريــة والطائفية والقبليــة. ثانيــا: الديمقراطي­ة، في مواجهة الاســتبدا­د بكل صوره ومستوياته. ثالثا: التنمية المســتقلة، في مواجهة التخلف أو النمو المشــوّه والتابع. رابعا: العدالة الاجتماعية، في مواجهة الظلم والاســتغل­ال بــكل صوره ومســتويات­ه. خامســا: الاســتقلا­ل الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية؛ الإقليمية والدولية. سادسا: التجدد الحضاري، في مواجهة الجمود التراثي في الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.

وكان من المتوقع أن تنهل ثورة يناير 2011 من ذلك التراث في وضع «مشروع وطني»؛ كان ممكنا؛ ووضعت له عناوينه الأربعة: «العيش.. الحريــة.. العدالة الاجتماعية.. الكرامة الإنســاني­ة» وللأســف لم يجد ذلك من يتبناه ويبلوره في صيغة «مشــروع وطني للتغيير» بعد نجاح الثورة المضادة في وأد ثورة يناير ذاتها واغتيالها، وأخيرا نســأل هل كان في مقــدور هذه الثورة الكبرى أن تقدم «مشــروعا وطنيا» يكون دليل الوطنيين والثوار إلى حكم مســتقل ومســتقر.. والرد بنعم، ولكن لنسأل عن المتسبب في منع ذلك؟!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom