Al-Quds Al-Arabi

هدوء: مريد يلقي شعره

- ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

■ اختلــف الشــاعر مريــد البرغوثي عن مشــاهير الشــعر الفلســطين­ي، وشــعراء القضية الفلســطين­ية، لارتقاء شــعره أعلى درجات الســلم اللغوي، بمعنى أن عبارته لم تكن ســهلة، لا مــن حيث ثقــل المعنــى، ولا من حيــث الكثافــة اللغوية التي يصــوغ بها أفكاره. هــو تحديدا رجــل عميق، صاحــب أفكار، نخبــوي، مجازي بدون ثرثــرة، بليغ بدون فائــض، على الأقل هذا اســتنتاجي المقتضب عنــه بعد تجربتي معــه في تواجدنا معــا في لجنة البوكر في إحدى دوراتها. وهي تجربة اتســمت بالغنى بوجوده.

بالتأكيد عرفته شــاعراً، لكنــه كان يملــك مهاراته الخاصة في القراءة، وفي الكتابة، وقد لمســت ذلــك عن قرب في طريقة كتابتــه لخطــاب التوصيــة، كان جــد مميــز، مقارنــة مــع كل الخطابات التي حضرتها في ما بعد كل سنة، خلال احتفاليات البوكــر العربية. غير ذلك أذكر جيدا أننــا خلال القراءة تبادلنا الكثير من الرســائل الإلكتروني­ة التي حوت تقييماتنا، ومن بين تقييماتــي كتبت تقريــرا جيدا في رواية الكاتبة هدية حســن، وما حدث لي مع مريد بســبب هذه الرواية يســتحيل نسيانه. فقد اجتمعنا كلجنة في إسطنبول، وصادف أن وصلت طائرته وطائرتــي فــي الوقت نفســه، فخصصــت لنا ســيارة واحدة لإيصالنــا للفنــدق، فبقيــت أنتظــره، وبمجــرد وصوله جلس بقربــي وفتح الحديث بلباقة عالية، وبــدون توقع مني، ملمحا إلى أن الرواية لا تعالــج قضية مصيرية، أو تحولات كبرى في الأمــة، فهي رواية بســيطة تحكــي حكاية مصائر أربع نســاء بينهــن خياطة، وهذا في نظره يقلل من قيمة النص. دافعت عن الرواية بقوة في اجتماعنا، وشــعرت بأن مريد اكتشفني مثلما اكتشــفته، ليس فقط من خلال تعاملي مع الســرديات، بل في مناقشاتنا المتنوعة بعيدا عن اجتماعات العمل.

كان إيقاعنا الفكــري متناغما جدا، وأذكر في ما أذكر أيضا طريقــة إصغائــه لــي، وأنا أفــكك روايــة «الطلياني» لشــكري المبخوت، وإعادة تركيبها بمعاييري الخاصة، أعجبته طريقتي في الدفاع عن النصوص التي نالت اهتمامي، وأعجبت بطريقته في الدفاع عن نصوص الشــباب، والنصوص الجديدة، فحين تحدثت عن جشــع الكتاب الكبار أيّدني، وأبدى رغبته في إبراز طاقات إبداعية بدماء جديدة.

قبــل التعرف عليه وجهــا لوجــه، والتعامل معه إنســانيا، عرفــت مريد البرغوثي من خلال كتابــه النثري «رأيت رام الله» ولم أختلف عن أغلب من قرأوا هذا الجانب من ســيرته، والتي نقــل إلينا مــن خلالها مواضع وجعه الشــخصي كفلســطيني ســلخ من أرضه، فقد عشت صدمة هائلة وأنا أعبر إلى ماضيه وتاريخه، ومشــاعره، وأتوغل بين ذلك الكم الفسيح من الشعر والنثر الجميــل لألامس قلبه. بالضبط هكــذا تفاعلت مع نصه البديــع ذاك، ويصعب علي اليوم وصف لحظــات القراءة تلك، وما تخللها من هزات نفسية عصية على نقلها لغويا. أمام نصه لا يمكــن قياس هيــاج اللغة إلا بكمية الصمت التــي تنتابنا. هو نفسه كائن يتقن الكتابة باحترافية عالية، لأن الصمت جزء من شــخصيته، ثمة جانب مهم في تعامله مع من معه، فهو متأمل، يتقن فن الإصغاء، ســريع البديهة، كما تســتهويه ألعاب اللغة على طرافتها، التي يمارســها في تعليقاتــه الذكية، ومداخلاته المبهــرة. صحيح مريد البرغوثي شــاعر مهم وكبيــر، ولكنه لم يحقق الشــعبية التي يســتحقها نصه إلى أن توفي. يوم إعلان وفاته تربع على عرش السوشــيال ميديا كـ»ترند» غير محمود درويش مثلا الذي عاش نجما وتوفي نجما.

اختلــف مريد في مســيرة حياتــه، وفي صياغته الشــعرية لرؤاه السياســية والثقافية. كان حريصــا على أن تبقى قدماه دائما على الأرض، رفض اســتصغار نفســه بمجاملات مقيتة، تفرّد بزواجــه بالروائية رضوى عاشــور، وبقصة الحب التي عاشــها معها وأثمــرت مبدعا بحجم تميــم البرغوثي. تفرّد في تلك العلاقة، كوجه لهرم صعب. ولعلي أيضا محظوظة بتعرفي على رضوى عاشــور عن قرب في بداياتي في التلفزيون. وهي شــخصية جميلــة بتواضعهــا وهدوئهــا وحكمتهــا، إذ أذكر تماما أن فريــق العلاقات العامة المكلف باســتقبال­ها في المطار أضاعها، وبدون أي مشــاكل أخذت تاكسي إلى الفندق، طبعا اعتــذرت منها بســبب ذلك الخطــأ، ولكنّهــا تعاطت مــع الأمر كمــا لو أنه لم يحــدث، أروي هذه الحادثــة لأن بعض ضيوفي كان لا يعجبهــم العجــب، وخطأ مثل هــذا كانوا أقامــوا الدنيا ولــم يقعدوها بســببه. فهمــت تركيبة رضوى عاشــور ومريد البرغوثــي من خــال تجربة اســتضافته­ما فــي برامجي، فقد تــركا معــا انطباعا طيبــا لديّ، بســبب تواضعهمــا ولباقتهما وعمقهمــا. لا يمكننــا الحديــث عن مريــد، بدون ذكــر رضوى وتميم، نعرف في قرارة أنفســنا أنهم يمثلــون جرحنا الأبدي، ويعكســون عاهاتنــا العصية على الشــفاء، ذنبنا غيــر القابل للمغفرة، جحودنا أمام عائلة ناضلت بالشــعر والحب والكلمة الجميلــة، لتحقيق أمنياتها البســيطة، بــدون أن تحصل عليها على بساطتها...

مريــد البرغوثي تجاوز فكرة الشــاعر والناثــر والناقد، هو قامــة وقيمة فلســطينية، وأكبر من ذلك هو قيمــة عربية. وفي اســمه نضــال كبيــر. عائلتــه الصغيرة مثــا تتكــون من الأب المحمول بهمّ، والأم بهـّـم، تميم الطفل حين رأى والده لأول مرة التبســت عليه الأمــور نادى عمــه بـ«بابا» صــورة لا تضاهيها صورة لاختصار الشتات الفلسطيني...

وأنــا أكتب هذه الســطور محاولــة قول ما أعــرف، لتوثيق شــهادتي حول هــذا الرجــل، فكّرت فــي مصائــر آخرين من طينته نفســها، كيــف حرموا من زوجاتهم وأولادهم لأســباب غبية، قد تكون مرتبطة بتعنت موظف من الدرجة العاشــرة، أو بإفلاس فكري مشــترك لمؤسســات يفترض أن تحمي العقول المفكــرة والمنتجــة، بــدل تشــتيت طاقاتها في الســجون وبين المنافــي. قصــة مريــد ورضوى كانــت لتكون مادة ســينمائية تهــزّ ضمائرنا، وتضعنــا وجها لوجــه أمام أخطائنــا لنعرف الســبب الحقيقــي لتخلــف عالمنا العربــي، ولكن ربمــا لم يحن الوقت بعد ليقظة، وإدراك حقيقيين لقيمة هؤلاء الاســتثنا­ئيين الذيــن تنهض الأمم بحمايتهم لا بالتنكيــل بهم. لكن مهلا، لماذا تصدّر اليــوم مريد البرغوثي قوائم الأعلــى تداولا في كثير من الــدول العربيــة؟ لماذا اكتشــفت جماهير مواقــع التواصل، أن هذا الشــاعر يلقي شــعرا يقتلع القلوب من أقفاصها؟ وأن هذا الصوت بقوة صوت درويش، ولكنه ليس درويش؟ وأنّه شاعر من الذيــن نحبهم كثيرا، ولكنّه قبل هــذا الموت كان هناك تحت الشجرة الظليلة التي حجبته عن الضوء؟

ثمة ولادة ثانية لهذا الشاعر لحظة موته، أو لنقل إنه انبعاث قوي لكلمته، ولكل ما كتبه وهو يروي حكايته. عودة غريبة من هناك البعيد إلــى عقر قلوبنا، انعتاق من الســجن الذي ضُرِب عليــه، انتصار عظيم للشــعر على غير توقع، رســالة من أقوى الرســائل التي يمكن أن يتلقاها العالــم، فهذا الجمهور الذي قد يبــدو تافها ومســالما، مفضِّــا تناقل القصــص المفرغة من أي محتوى جــاد، بإمكان الشــعر أن يرفعــه فجأة لعتبــة الوعي. سر الشــعر يكمن هنا، وســر ســلطته المخيفة تكمن هنا أيضا، إنّــه يوقظ الوعي، وســواء جاء مفعوله مبكــرا أو متأخرا فإنّه نفسه، يعيد الحياة للنفوس التي لوثها الموت، يزرعها بشتلات الأمل، ويغير وجهها إلــى الأبد. والآن من لم ير رام الله عليه أن يبحث عنها في كتاب مريــد، ومن لا يصدق أن الحب أقوى من المسافات والظلم، فليقرأ قصائده، لا شيء قطع الحبل السري الــذي ربطه برام اللــه ورضوى، فقد واجــه كل الأمور الفظيعة بشعره، وهدوئه وصمته. يمكننا الإصغاء جيدا... هذا الصوت الرخيم الذي يقرأ شــعرا جميلا تقشــعر له الأبدان إنّما ينبعث اليوم من قبره.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom