Al-Quds Al-Arabi

رواية «هروب وردة» للعراقي ضياء الخالدي: هناك دائما فسحة للأمل

-

■ مَــن يتتبــع أعمــال الروائي ضيــاء الخالدي، ســيجد لديه معرفة عميقة بأســرار المدينــة ومزاج حيواتها، وليس من الصعوبة بمكان التوصل إلى هذا الاستنتاج، وربما هذا جانب مما يميزه عن العديد من أقرانــه الروائيين العراقيين. وفي روايته الموســومة «هــروب وردة... وقائــع صيــف 95» الصــادرة عن منشــورات نابو العراقية عام 2020 يواصل التنقيب في أســرار مدينة بغــداد التي عاش بعــض فصولها التراجيديـ­ـة. وأرى أن الخالدي نجح إلى حد كبير في نسج بنية ســردية بتفاصيل يومية، وهو يستكشف عالمــا إنســانيا كان يعيش تحت حصار لا إنســاني، عبر حبكة ســردية انفلتت تقاناتها من قيود الســرد الكلاسيكي، خاصة في تعامله مع الزمن.

ما بين المؤلف والسارد العليم

تموضع الخالدي خلف قناع الراوي العليم المحايد، ليمارس دور الســارد، ولم يتخل عن هذه التقنية إلى نهايــة أحداث روايتــه، والحضور المســتتر للراوي العليم، بضمير الغائب وبصيغة الماضي، لم يســتعن به إلا ليمارس دورا موضوعيا في تعرية الواقع خلال فترة الحصــار الدولي، الذي مرّ به العراق طيلة العقد التاســع من القرن الماضي، وكان حريصــا على أن لا يبدو متورطا فــي التعبير عن وجهة نظره الذاتية، أو أن تبدو له صلة مباشــرة بما يسرده الراوي العليم، عن حكاية وردة وبسام وبقية الشخصيات.

اختلق المؤلف صوت ســارد يملك حرية مطلقة في السرد، جاء به من خارج الحكاية، وليس له أي علاقة بالشخصيات ولا بالأحداث، لكنه يمتلك مفاتيح النفاذ إلــى دواخلها. وعلــى ما يبدو فإن الخالــدي لم يجد أي ضرورة فــي أن يكون الســارد مرتبطا مع أحداث وشــخصيات الروايــة، وكأنــه أراد أن يدفعنــا إلى الاستنتاج بضرورة إحالة السارد العليم المتخيل إلى ذاته الواقعية الحاضرة، باعتباره الســارد الحقيقي الذي يتســتر خلف الســارد المفتــرض. ومهما كانت التقنيات التي يلجأ إليها الروائي في تأسيس مفردات خطابه الســردي، فإن المحصلــة النهائية لضرورتها تتوقف على الكيفية التي يقنعنا من خلالها بما أنتجه من تخييل ســردي، وأظن أن الخالدي كان موفقا في روايته التي توزعت على ثلاثة أقسام، وكل قسم منها تفرع إلى ثلاثة عشر عنوانا فرعيا.

أزمنة متداخلة

تم تقنين الزمن الســردي بوحدة فنية دائرية، عمد فيها الخالدي على تطويعه في حبكة تشتغل على لعبة متوالية، تتبادل فيها ثنائية الماضي والحاضر الأدوار والمواقــع، ليخلق بذلــك نمطا إيقاعيا يخرج الســرد عن مبناه الخطــي، فلجأ إلى إعادة ترتيب تسلســل الأحداث بما لا يتفق مع مسار منطقها الواقعي، فكانت نهاية الحكاية في عام 2007 هي فاتحة السرد وبدايته، ولينعطف بعدئذ بالزمن الســردي بشكل حاد عائدا إلى البداية الواقعية لحكاية بسام ووردة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وليعود في الختام إلى عام 2007 حيث بداية الســرد. كان القصد من هذا المنحى في بنية الزمن الســردي، الاشتغال الفني على ربط منطق الأحداث مع بعضها، وليس مسار الأحداث بحد ذاتهــا، وخلق إيقاع منفتح علــى أزمنة متداخلة ومتوالية فــي حركتها، حيث يبدأ فــي تحريك الزمن الســردي في عام 2007 في مدينة سدني الأسترالية، عندما كان بسام علوان يهم بالدخول إلى مركز تسوق ضاحية هينشــبروك، فينتبه إلى امرأة برفقة طفلين، الكبير في ســن الســابعة والآخر أصغر منه بعامين، وبعد أن تأمل ملامحها على بعد عشرين مترا، تأكد من أنها وردة الشــطب، ومع أنها بدت وكأنها امرأة أخرى بكامل الأناقة والثقة بالنفس وبجسد ممتلئ،

لكنــه تأكد مــن أنها هي ذاتهــا الفتاة التي ســاعدها على الهروب قبل أكثر من اثني عشــر عاما، ومن هنا يرتد الزمن السردي إلى الوراء، لتبدأ حكايتها تتدفق فــي ذاكرته، مســتعيدا عبر الراوي العليم سرد الأحداث من عام 1991 عندما كانت سحب الدخان الأســود تتصاعد في ســماء بغداد، مقبلة من آبــار النفط المحترقة فــي الكويــت، وقوافل الجيش العراقي تغــادر مهزومة مــن أرض المعركة، وفي ظل تداعيات تلك الأيام وما أعقبها مــن تفكك وانهيار في بنية المجتمع والنظام السياســي، تغادر وردة هاربة إلى بغداد ولتستمر لعبة السرد في تتبع بقية تفاصيل هروبها والعلاقات الشــائكة التي نتجت عن ذلك، ثم يعود بنا الزمن السردي في ختام الرواية إلى الحدث الأول، الذي افتتحت به عام 2007 في أستراليا. وجاء انفتاح الزمن الســردي على هذه الصورة التي تخلى فيها خطاب المؤلف عن شــرط خضوع الســرد لمسار كرونولوجي )متــدرج( وبدلا عن ذلــك امتثل لبنية زمنية اســترجاعي­ة، ليكشــف من خلالهــا عن خفايا العلاقة التي جمعت بين الشخصيات المحورية.

دلالة رمزية

الرواية تسرد لنا حكاية وردة، الشابة القروية التي قررت بإرادتها، أن تنتفض على ما يحيطها من موروث قيمي لم ترض أن يفرضه عليها مجتمع قبلي ذكوري، ليختــزل بعقليتــه الاســتبدا­دية حريتهــا، وليضع ذاتها الأنثوية الغضة أمام جدار ســميك من الأعراف المتوارثــ­ة، ولأنها وصلت فــي تعليمها إلــى المرحلة الثانويــة، لذا كانــت مهيأة لأن تختــار موقفا رافضا مصدره ذاتها، التــي مازالت على فطرتهــا وبراءتها والقدر القليل مما تلقته من تعليم في المدرسة.

بناء على الصــورة التمردية التي اجترحها مخيال المؤلف تبدو شــخصية وردة، رغم واقعيتها، أقرب ما تكون إلى شــخصية «نصيَّة» لها دلالة رمزية قصدية، وهذا ما يتأتــى واضحــا عندما وضعها فــي تقاطع حاد مع واقع مشــروط بفترة زمنية واقعية، امتازت بالفوضى والانهيارا­ت السياســية والمجتمعية، وهي فترة ليست بعيدة عن ذاكرة الأجيال التي عاصرتها،

ومازالت تعيــش تداعياتها، ويتعمق هذا الاستنتاج عندما تقرر بينها وبين نفســها أن تثأر لنفســها، مــن غير أن تخطر في بالها التكلفــة الباهظة التي تنتظرها، لأنها لم تكــن على دراية بما ســتؤول اليه أوضاعها وما ستواجهه من عنف واســتغلال بشــع فــي رحلة هروبهــا. فتســتحيل في ســيميائية تمردها، إلــى مقاربة دلاليــة تعبر عن موقــف رافض للقمــع المرهــون بفترة زمنيــة تتحرك فيها مســارات الأحداث وشخوص الرواية. ولــم تنتظــر وقتــا طويــا لتقطع كل صلــة تربطهــا بمجتمعهــا المحدود بآفاقه وتطلعاته، فجاء موقفها حاســما

وســريعا من بعد أن وجدت نفســها أمــام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تســتكين أو تختــار التمرد، وإذا ما تراجعت ســيتوجب عليها أن تُخضِع كيانها للأعراف التي منعتها من إكمال دراســتها الثانوية، وحشرتها بدون إرادتها بعلاقة زوجيــة بابن عمها كانت خالية من مشــاعر الحب، فما كان منها إلاَّ أن تنســاق وراء جموحها، رافضة أن تكون حياتها نســخة مكررة مما انتهت إليه حياة شقيقاتها اللواتي استسلمن للأدوار التي رسمتها التقاليد والأعراف.

بدت وردة مدركة لحقيقــة الاغتراب، الذي وجدت نفســها فيه، وأدركت بفطرتها أنها إذا ما اســتكانت فســتضع مصيرها في منحى لن ينتهــي بها إلاّ بموت معنوي، فقررت أن تنسلخ عن العالم المفروض عليها، واتجهت بدون بوصلة إلــى العاصمة، لتكون حياتها مرهونة بسلطة تمارس الخوف والعبث عليها، مثلما كانت تمارســها على بغداد، ورغم أنها سقطت بدون إرادتهــا في أولــى مراحل خيارها التمــردي في بيت للدعــارة يتولى )ذياب( الضابط فــي الجهاز الأمني للســلطة توفير الحماية له، إلا أن جــذوة تمردها لم تنطفــئ في داخلهــا، فبقيت ترنو إلــى اللحظة التي تنجو فيها من أســر هذه التجربة، لتعاود الســير في طريق المدن البعيدة التــي ظلت تحلم بالوصول إليها مذ كانت وسط أهلها.

شخصيات متمردة

ليســت وردة مــن تهيمــن ولوحدها على مســار الأحداث، إذ يتشاطر معها بسام علوان، الشاب الذي تسرَّح حديثا من الجيش، والذي يلتقي معها في تمرده على ســلطة شــقيقه الأكبر )يحيى( الــذي يعمل في الجهاز الأمني للنظام الحاكــم، فيرفض كل الضغوط التي يمارســها عليه بقصد أن ينخرط معه في الماكنة الأمنية، ويقرر النأي بنفسه بعيدا عما رسمته العائلة مــن قناعات تكرس ســلطة الماضي، وبــدل أن يقتفي الطريق الذي ســلكه شــقيقه، آثر الانصياع لحريته الذاتية، منخرطا في مهنة بيع الكتب المســتعمل­ة على الرصيف في شارع المتنبي، وبهذا الخيار يكون شقيقه قد فشــل في أن يســحبه إلى عالمه المضــرج بضحايا أبرياء يتم اعتقالهم نزولا عند رغبة مرؤوســيه، وهنا يتكامــل فعل التمــرد بين بســام ووردة، وما بينهما يقــف صديقاه حــازم نزاكة وعلوش جقمقجــي اللذان يعملان فــي تصليح المقادح الغازية في شارع المتنبي، فالاثنان يتأرجحان في زمن تحكمه ســلطة شــديدة القسوة على الضعفاء، ويلعب القدر دوره مع حازم ليتشيأ تكوينه الخلقي ما بــن الأنوثة والذكورة، ولا يجد خلاصا من تبعــات هذه الصدفة القدرية، إلا بعد أن يتخلى هو الآخر عن انتمائه العائلي ليعيش حريته الفردية بعيدا عن سلطة الأب.

الواقع والشخصيات

إشكالية الشــخصيات المحورية أنها جميعا كانت عالقة في نقطة تائهة، كما لو أنها تســير على رمال متحركة، لكن خاصيتها أنها تملك ما يكفي من الدوافع الإنســاني­ة لكي تمارس دورا فاعلا يمنح الآخرين مساحة من الحب والأمل، مثلمــا فعل الثلاثــة مع وردة )بســام وحازم وعلــوش( عندما قــرروا احتواءها في شــقة حازم وتقديم المساعدة لها، لتكون في مأمن من عقاب زوجها، الذي كان يلاحقها غســا للعار، ويأتي موقفهم تعبيرا عما يشــعرون به من رفض وتمرد على واقع لم ينصفهم، وأطاح بهم على رصيف الحياة.

تستثنى من أزمة الاغتراب التي تعيشها شخصيات الرواية، الرسامة حورية التي تولت مسؤولية تهريب وردة إلــى الأردن، التــي رفضــت أن تغــادر العراق والالتحاق باولادها الذين اختاروا العيش في الغرب، مفضلة البقاء لوحدها في بيتها، والاستمرار في العمل والإنتاج.

شــخصية بســام في تكوينهــا مرتبطــة بالعالم الواقعي بعلاقة وثيقة، ربما تبدو إشــارة إلى جيل من الشباب تم توريطهم بحروب أفقدتهم مشاعر الانتماء، بعد أن تحولوا إلى أداة عبثية للموت، ومن هنا اختار التمرد على طريقته الخاصــة، بالخروج عن منظومة الدولة ومؤسســاته­ا، والعمل بعيدا عنها وعن سلطة الآخريــن، خاصة بعــد أن فتحت الكتــب أمامه آفاق المعرفة، وعرف معنى أن يكون الإنســان حرا في بيئة تحتقر الحرية وتقمعها، ولهــذا لم يتردد في أن يغامر بحياته حتى ينقذ وردة، من غيــر أن يكون له دوافع نفعية، وكل ما كان يســعى إليــه أن يتطهر من أعباء الزمن الذي وجد نفســه فيه، ومن شعور حاد بالندم دائمــا ما كان يلازمه لأنه تســبب بــدون قصد بموت أحد الجنود أثناء خروج الجيش مهزوما من الكويت، وجاءت شخصية بســام بدلالتها لتلمِّح إلى ما حصل من تحول فــي الوعي لدى الأجيال، التي ســيقت إلى الحروب، وخرجت منها ناجية بفعل الصدفة، فما كان منها إلاّ أن تنقلب على النظام المجتمعي برمته، وليس على السلطة السياسية فحسب.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom