Al-Quds Al-Arabi

الساكنون في النصوص

- ٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

■ للنصوص ســحرُها لا شــك في ذلــك، هــذا إذا كانت لغتها ســاحرة... لكــن للنصــوص ســجنها الذي لا يســلم منــه إلا من يعــرف تخطي أســوارها، بعد أن تعلو وهــو داخلها أو من يعرف كيف يكسر أبوابها بعد أن تُغلق عليه. السحر والسجن مرحلتان متتابعتان من مراحــل قراءة النصوص، اهتــم النقاد والمنظرون بالأول وأســقطوا من عنايتهم الثاني. السحر حالة جذب نفسية إلى النصوص، تشــبه حالة فراشــة الليل التــي تظل تحوم حول شــمعة لا تعرف لدورانهــا نهاية حتــى يقتلها النــور، بالدوار أو بالنــار. لكن الســجن حالــة أكثر تعقــدا من الجذب النفســي إلى النصوص، تشــبه حيوانا مأخوذا برائحة طعم أو بلونه، يتناوله ثــم ينغلق عليــه باب الفخ، ويظل أســيرا ينتظر عبثــا من يخلصه منه. لكن من يخلــص فأرا من فخ نصب له إلا الموت؟ ومن يخلص عصفورا جميلا نصبت له الفخاخ إلا قفص يرمى فيه؟

حــن تتعلم القــراءة تتعلمها لتفك شــيفرة المكتــوب، ولولا أن النصوص تكتب لما احتجنا أن نتعلم كيف تُقْرأ. كان أول قراء تلك الشــيفرات هم من كتبوا بها أولا، وعلموهــا مريديهم وأوصوهم بالتكتم على ســر تفكيكها. كانــت الكتابة في أول عهدها تشــبه الطلاسم السرية، بل قل إن طلاسم الخطوط هي كتابة لم تنضج بعد أو لم تصبح ملكا مشــاعا. الســر في الكتابة والســحر عاشا معا كالتوأمين قبل أن يصبح للسحر معنى آخر غير معنى التوأمة مع الكتابة.

لا يمكــن أن يكــون صديقــاً للكاتب غيــرُ القــارئ ولا يمكن أن يكون صديقا لمن طلب فك طلاســم الســحر غيرُ العراف لذلك قال الفيلســوف­الفرنســيل­اكان إنتنظــرفي­ثُفْــلالقهوة ليس هو نفســه أن تقرأ الكتابة الهيروغليف­يــة». ثفل القهوة وهو ما ترســب في الفنجان منها هو ما يتأمله العرافون لكي يمارسوا طريقتهم في قراءة الطلاســم، بعد أن تُرســم خطوط ما في فراغ الفنجــان. لكــن قــراءة الحــروف الهيروغليف­ية القديمــة تتطلب عارفا حقيقيــا، بما تفيده الأشــكال التصويرية التــي كتبت بها. لقد ظــل العلماء يبحثــون عن فك شــيفرة الكتابــة الهيروغليف­ية منذ القرن التاســع عشــر، حتى جاء جان فرنســوا شــونبوليو­ن

فكشــف أســرارها فــي عشــرينيات القــرن التاســع عشــر، إلا أن التوصــل إلــى قــراءة الهيروغليف­يــة لــم يتيســر إلا بالعثور على «صخرة رشــيد» وهي رقيم كتب بالهيروغلي­فية واليونانية القديمة والديموطيق­ية وهي خط مصري شــعبي قديم استخدم في تدوين النصوص المصرية القديمة؛ فكت شــيفرات الهيروغليف­ية اعتمادا علــى الترجمة.. لا يُعــرف متى توفي آخــر قــراء الهيروغليف­ية. وفاة آخــر قراء لغة مكتوبة وإن كان أقل خطرا من وفاة آخر الناطقين باللغة نفسها، فإنه حدث جلل أيضا: بموته يحمــل كل مفاتيح القراءة والكتابة معــا. وينبغــي أن ننتظــر قرونا حتى نجــد من يســتطيع أن يفك الشيفرة المجهولة، ويدشن عصر القراء الجدد، الذين سيتعلمون قراءة الخطوط لا عن كاتبيها الأولين مباشــرة، بل بإعادة البناء، أي بتكوين عناصر معرفة جديدة بتلك اللغة تبنى لبنة لبنة.

إلــى الآن تحدثنــا عــن القُراء الــذي يفكــون شــيفرة الكتابة، ولذلــك نحــن إزاء المعنــى الأولــي للقــراءة؛ وإزاء قــوم يقطنون خــارج النصوص ويحرســون خطوطهــا ويعرفــون معالمها إلى أن يموتــوا فجأة وهم خارج النصــوص. إلا أن هناك قراء آخرين يقتربــون مــن النصوص اقترابا شــديدا حين يمارســون القراءة بمعناهــا الثاني، وهي قراءة الفهم ومــا يقتضيه الفهم من تأويل وتفاعــل مــع التأويل، حــن نقرأ نصــا نحن لا نتوقــف عند لغته الأولــى الظاهــرة نحن في الغالــب نبحث عن المعانــي التي خلف تلك المعانــي الظاهرة، حتى إن كانت الكلمات بســيطة والمقامات واضحــة فلا بد أن نبحث عما وراء الفهم البســيط، هذا دأبنا في التواصل اليومي: نحن لا نفهم الرسالة إلا بعد أن نسبر أغوارها، ونصل بالتأويل منتهى معناها الحقيقي. ونحن نؤول ما نقرأ من النصوص، مهما كانت تلك النصوص أدبية أو دينية أو تاريخية؛ شــعرية أو نثرية نشــعر بشــيء من التفاعل معها، ولا أحد يقول لنــا لا تتفاعلــوا وأنتــم تقــرؤون وتؤولــون، لذلك نتــرك العنان لأنفســنا المتفاعلة تنجــذب أكثر إلــى الأقوال. ســحر النصوص ليس بالضرورة طُعما يقع على تخوم أساليبها، مثلما قيل لنا في أيام العرب النقدية؛ وليس الشــعراء سَــحَرة إلى ذلك الحد الذي يجعلوننا نقع لأجله وقوعا سهلا في شِراكهم السحرية. سحرية الوقوع داخل النصوص ليســت من أمر اللغة وحدها، والإنشــاء وحــده مثلمــا قد نعتقــد؛ والكلام الســاحر ليس قوة فــي الكلام لوحده، ولا في الســاحر الذي يقوله، بل هو قبل كل شيء قابلية للانجذاب صادرة ممن يقرأ.

ظلت الســحرية التي توصف بها النصوص، توصف بأنها من أمر مركز النص، فالنص على نهج هؤلاء يجذب بلغته القراء، لأن تلك اللغة مختلفة أو مفارقة أو ساحرة. غير أن في التاريخ أشياء كثيــرة تــدل على أن نصوصــا عادية ليــس في لغتها أي نســيج مفارق، مارســت وما تزال تمارس ســحرا لا على الأفراد، بل على الشــعوب. مثالنا البســيط على ذلك حكاية «ألف ليلة وليلة» التي ظلت تمارس سحرا على الأوروبيين بعد أن ترجمها أنطوان غالان

بين ســنتي 1704 و1717 واشتهرت تحت اسم (ليالعربية(.هذاالأثرال­ذيلامؤلف له، مارس جذبا جماعيــا لقارئيه الغربيين، لأن لديهم رغبة في أن يعيشــوا في الأجواء العجائبية، أو الممكنة التي تسردها شهرزاد على مسمع من ملكها ومَخْيَل، ملكها الذي كان يسهر على الحكي حتــى تســكت هي عن الــكلام المبــاح في أولــى تباشــير الفجر.. للحكايــات في الليل ســحر يختلــط فيه القول بالحلم وبالســر.. للصباح نســيح وقائعي ولليل نســيج عجائبي. الفعل السحري الذي مارســه النص نابع من شــوق دفين إلى هذه العوالم وليس إلى تفاصيل الحكايات ولا إلى الأســلوب العامي البســيط الذي كتبت به. الشرق بمفهومه الموسع الذي يبدأ من الهند ويصل إلى فارس، ويمرّ بالبلاد العربية هو العالم الســحري الذي رآه الغرب في حكايات ألف ليلة وليلة، التي تحلم النفس الغربية بأن تسافر إلى هناك. يركب السندباد بساطه السحري، ويجول في العوالم العجيبــة ويركب الغربــي، وهو يقرأ الأثر، بســاطَ النص ويجول بواسطته في العوالم الممكنة الموازية لعالمه.

لكن أن ينجذب القارئ ويســحره النص، لأن فيه رغبة ودافعا إلــى أن يكون منجذبا مســحورا، فذلك شــيء وأن يعيش القارئ مسجونا بالنصوص فذلك شيء آخر.

قد يقــرأ المرء نصا آخر مثــل «الإمتاع والمؤانســ­ة» لأبي حيان التوحيــدي، أو قد يقرأ « تاريخ الخلفاء» للســيوطي، أو أي كتاب مــن التاريــخ أو الأخبار القديمــة التي قد تنقل لنــا أخبار الخلفاء والــوزراء والأمــراء والحاكمين بأمر الله، بشــيء مــن الإعجاب، إعجــاب من يحن إلى أيام الساســة في ذلــك العصر، أو بإعجاب من يقع في نفســه شــخص يراه بديعــا ولنقل مثــا الحجاج بن يوســف الثقفي أو هارون الرشيد أو عمر بن عبد العزيز. الافتتان بالنــص يعنــي أن القــارئ يصبح متفاعــا مع الخطــاب، وكأنه وقائع فعلية؛ بل يصل التفاعل إلى درجة أن يســكن الشخص في النص أو الموقف، أو الأقوال ويتعامل معها لا على أنها ممكن، بل على أنها شــيء حدث فعلا ويمكن أن يعــاد. يبدأ فعل القراءة ولا ينتهــي لأن القارئ وهــو ينهي القراءة لا يعيد الكتــاب إلى الدرج، بل يحمل وســادته وفراشه وذهنه وحسه ووعيه وقَراره وحُلمه ولغتــه.. ويغلق دفتي الكتاب عليه ويظــل هناك.. تراه خيالا معك فــي المقهى وفي الشــارع وفي القطــار، وربما فــي البرلمان أو في الســفارة والوزارة، ولكنه يكون ذهنا ووجدانا وعقلا ســجين ما قرأ من خطابات وســجين لغتها وأحلامهــا الكبرى، التي صنعت في رأيه تاريخا يعتقده الحاضر والمستقبل.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom