Al-Quds Al-Arabi

«قارا» حبس الروح والجسد!

- كاتبة مصرية

■ كثيــراً مــا تتواتــر قصص ونــوادر عــن ظهور أشــباح في بعــض الأماكــن أو لبعض الأشــخاص، فذكرهــا يجعــل القشــعرير­ة تدب في العــروق. وقد يحــدث أحياناً أن تختص هذه الأشــباح شــخصا ما فتظهر له، فيصاب بذعر يــؤدي إلى إصابته بنوبات نفســية وعصبية قد لا تحمد عقباهــا، على الرغم من أن تلك الأشباح مجرد أرواح معلقة، حبيسة على ظهر الأرض في حاجــة لمن يمد لها يد العون؛ حتى ينجيها من العــذاب. فجميعها كانت يومــاً لأفراد عاديين، لم تكن مخيفة، أو شريرة أو مؤذية.

ومــن ثم، فإن عقوبة الحبس هي أســوأ العقوبات التــي تفرض علــى أي كائــن حي؛ لأنهــا تحبس قبل أي شــيء الروح قبل الجســد، وتحيل الفرد إلى شــبح يخشــى الجميع مخالطته، سواء أكان في الســجن أو خارجه. فالســجن يغيِّــر الأبعاد الزمانية، والمكانية والجسدية للأشخاص، ويعصف بحياتهم العاطفية، وكذلك يقوِّض هويتهم.

وفي هــذا المنحــى، يذكر جيــروم إنجلبــرت عالم النفــس الإكلينيكـ­ـي والمحاضــر في جامعــة لياج في بلجيــكا أن «ســجن الجســد يغيِّــر علاقتــه بالزمان والمــكان، فلــكل ســجين تصــوره الخــاص للمــكان والزمــان وجســده» لكــن يتغيِّــر ذلــك بعــد الحبس الــذي يؤثر في «العالم الخيالي للســجين ونفســيته وهويته .»

في داخل الســجن يتحرك الســجين فــي إطارين زمنيين لا ثالث لهما، وإن تفاوتت سرعتهما باختلاف مجريات الأمور. الإطار الأول يرتبط بالروتين اليومي المتكــرر، فالســجين ليــس بمقــدوره اختيــار أوقات الاســتيقا­ظ، والنوم، والاغتســا­ل، وتنــاول الطعام؛ لأن الضابط المشــرف على النُزُل هــو من لديه القدرة علــى اختيار تلك المقــدَّرات. أما الإطــار الزمني الآخر فهو يتعلق بالعالم الخارجي؛ فتجربة السجن تُقْصِي الســجين عن العالــم الخارجي ومجرياتــه، وتجعله حبيــس ذكرياته قبــل دخوله الســجن. والســجناء الذيــن قضــوا فتــرات عقوبــة طويلــة، يخرجــون غربــاء لا يســتوعبون ما يحدث من تقدم، ســواء في التكنولوجي­ا أو الموضة. ومن ثم يطُّلون على البشرية وكأنهم أشباح مســلوبة الإرادة قادمة من زمن آخر؛ لأن فكرتهم عن المكان تصبح جزئياً مضطربة للغاية. فالإنسان العادي عادة ما يميل إلى إظهار هويته، من خلال ديكور منزلــه، أو حجرته، أو حتى محل عمله؛ فاختيــار شــكل وموضع الأثــاث يتحدث عــن هوية المرء. أما في الســجن، فلأســباب أمنيــة، يتم وضع المســاجين في زنزانات متشــابهة يحرمون فيها من اختيار شــكل ومــكان أثاث الحجرة، وإن سُــمِح لهم تزيــن ركنهم الخاص بالصــور والملصقات، أو حتى الــزرع. ويؤكد جيــروم إنجلبرت أيضا، أن الســجين يتــم فصله عن جســده بكل الوســائل. فعلى ســبيل المثال، لدواع أمنية أيضاً، يُحْرَم السُــجناء من وجود مرآة عادية؛ فمرايا الســجن معتمة؛ لأنه يوضع عليها طبقة معتمة تظهر انعكاسا غير واضح لصورة المرء، أو بالأحرى لظُّله. وبهذا، يحرم الســجين من أساس التفاعــل الاجتماعي والهوية، ألا وهو شــكل وجهه. وبذلــك يتحول أي فرد لمجرد «ظل» أو «شــبح» حتى لو كان جسده لا يزال ينتمي لعالم المادة.

لكــن مهما كانــت بشــاعة تجربة الســجن فهي لا تزال تعطــي الفرد الأمــل في أنه ســوف يتحول في يوم ما «لشــبح» أو لـ«روح هائمة» على وجه الأرض، فــي انتظــار من يمــد لها يــد العــون، ويجعلهــا تعبر للعالــم الآخــر؛ أي للعالــم المعاصــر وذلك فــي حالة الســجناء. لكــن أقصى تجربة ســجن في البشــرية التي كانت تدمر الروح قبل الجســد هي «حبس قارا» في مدينة مكناس في المغرب، الذي شــيَّده إسماعيل بن الشــريف، أو كما يعرف باســم مولاي إسماعيل (1645 ـ 1727( ســلطان المغرب الــذي حكمها لمدة 55 عاماً )1672 ـ 1727(. وســجن «قارا» هو ســجن بشع بكل المقاييس، تدور حوله القصص والأســاطي­ر منذ تشــييده، وهو ســجن «الداخل إليه مفقود». فسجن قــارا من عجائب البنيان التي يبعث شــكلها المعماري والهندســي الخوف والهلع في نفس من يدخل إليه؛ فهو السجن الوحيد في العالم الذي لا يوجد له لا باب ولا شباك، فيما عدا بضع فتحات في سقف السجن، كان يُقذف من خلالها الســجناء، والمــؤن، والماء. أما الســجن من الداخل فهــو عبارة عن متاهة شاســعة مــن الصعــب - أو حتى من المســتحيل حتــى الآن - التكهن بمساحتها؛ لأن الســجن بأكمله مشيّدًا تحت ســطح الأرض على مســاحة عشــرات الكيلومترا­ت، ويقال إنه يمتد ليشــمل مدينة مكناس بأكملها. وكان مولاي إســماعيل يســجن فيه الخارجين عن القانون والمعارضين له، وكان أيضاً يعج بالسجناء الأجانب من البرتغاليي­ن والإسبانيي­ن والأيرلندي­ين، الذين كان يجلبهــم القراصنــة، فيســتغل مهاراتهم في تشــييد الأسوار والجدران والفسيفســ­اء، وكل تقنيات بناء القصور.

ويوجد الســجن في القصبة الإســماعي­لية )قصر الحكم( ويستوعب نحو 40 ألف سجين في آن واحد، ويقــال إنه ألقيَّ فيه نحو 2 مليون روح. يعزو البعض أن تســمية السجن الغريبة تلك تعود إلى اسم مصمم السجن، وكان ســجينا برتغاليا حصل من السلطان على وعد بتحريره، إذا قام بتشــييد ســجن محكم لا يمكــن الخروج منه أبــداً. وهناك أقوال أخرى تشــير إلى أن تسميته تشــير إلى حارس السجن، الذي كان رجــل أقرع بــا رحمة؛ يتفــن في تعذيب الســجناء، ويجبرهــم على العمــل منذ بزوغ الفجــر حتى حلول الليل بدون طعام. وأثناء العمل كان يضربهم بغلظة، ومــن كان يقع من شــدة الضــرب، كان ينهــال عليه بضرب مبــرح حتى يســتفيق ويكمل حفــر حجرات جديدة في السجن.

والســجن مــا هــو إلا حجــرات تشــبه القبــو، كل واحــدة منهــا تفضِي إلــى أخرى في شــكل متاهة لا بداية لهــا ولا نهاية. ويشــاع أن لتلــك المتاهة مخرج واحد سرِّي، إذا تم العثور عليه ينال السجين حريته. وبالطبــع، لم يجــده أحــد. والغريب محاولــة الكثير من الخبــراء، والرحالة، والمستكشــ­فين ســبر أغوار تلك المتاهــة بالنزول للســجن، لكــن جميعهم فقدوا للأبد في غياهــب تلك المتاهة. ووصل عــدد البعثات الاستكشــا­فية 12 بعثة، آخرها في تسعينيات القرن العشــرين، حين أصرت بعثة فرنسية مزودة بجميع الوســائل التكنولوجي­ة الحديثة استكشاف المتاهة. وكالعــادة، مصيرهــا مجهول حتــى الآن. ومنذ ذلك الحــن، تم غلــق الســجن بحائــط إســمنتي ضخــم وتركت قاعة واحدة للسياح.

وتحوم حول المكان أســاطير تشــيع بأنه مسكون بأرواح شريرة لَعَنَتَه، ويؤكد الكثير من أهالي مكناس أنهم في بعض الأحيان يســمعون أصوات تأوهات، وصراخا، واســتغاثا­ت صادرة من جــدران المنازل، أو مــن تحــت الأرض، ويعــزون أنها تنتمــي لأرواح ســجناء تلك المتاهة الملعونة، سواء أكان ذلك حقيقة أم أوهاما، فتجربة الحبس قاتلة للروح قبل الجسد، حتى لو كانت افتراضية موقعها في جدار النفس.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom