Al-Quds Al-Arabi

لماذا اختلف السوريون حول محاكمة إياد الغريب؟

- د. ممتاز الشيخ ٭

ليس مفاجئــا أن يحظى حكــم محكمة كوبلنزعلى إيــاد الغريب بهذا الاهتمام بين الســوريين، وأن يفترقوا بــن الترحيب بالحكم، باعتباره بداية لمحاكمة مجرمي النظام السوري، وبين مستهجن له باعتباره طال عناصر منشــقة عن النظــام دون أن يقترب بالحقيقة من أزلام النظام الحقيقيين.

وعلى الرغم من أن مســار محكمة كوبلنز بجلساتها التي تخطت الرقم 58 لم يجر بعيداً عن الإعلام، إلا أن بعض إشــارات اســتفهام أثــارت فضول جزء من الســوريين حتى ليلة النطــق بالحكم الذي فاجأ مؤيدي الحكم ومعارضيه.

جــاء الحكم مــدة 4.5 ســنوات بتهمــة التواطؤ فــي جرائم ضد الإنســاني­ة، ضمن إطار أول محاكمة فــي العالم مرتبطة بانتهاكات النظــام، وبنــاء عليه فالمتهم جزء مــن النظام رغماً عــن أنفه، ولأنه تســبب خلال تأديتــه مهامه باعتقال مدنيين أبريــاء، وحينها فقط تجرأ ذوو إياد وأصدقاؤه للكشــف عن بعض ملابســات القضية، وحينها تكشّــفت بعض معالم المشــهد الذي قسّــم الســوريين إلى فريقــن، مــن رأى الحكم مســتحقاً فالمتهم، في النهايــة عنصر في جهاز الأمن السوري الرهيب ويستحق الإدانة، أما مسألة انشقاقه وانحيازه المبكر للثــورة نهاية 2011 وبدايــة 2012 مجرد تفصيل لا قيمة له، مرددين عبارة مناوِبة «الانشقاق لا يجبّ ما قبله.!»

المنظمات الحقوقية

والقســم الآخر رأى المشــهد من زاوية محاكمــة صفُّ ضابط مع إصــرار مثير للشــك علــى إلحاقه بالنظــام، ويســتطرد أنصار هذا الفريــق أنه مــن العبث اعتبار أن حياة الصغــار وحريتهم غير مهمة وهي عرضة للتضحية بها كل مرة، وأن استغلال ضعف مثل هؤلاء الأشــخاص عادة ما يكون لغرض التوظيف السياسي لا أكثر، حين تعجز الســلطة عن مواجهة المســؤولي­ن وإحضارهــم إلى المحاكم، ودليلهــم على ذلــك ان عددا من مســؤولي الأمن الســوريين الكبار والمثبت دورُهم في الإجرام ما زالوا يجوبون أوروبا من شمالها إلى جنوبهــا دون أن تطالهم محاكم الــدول ذات الصلاحية على الرغم من تسجيل دعاوى ضدهم.

وتعتبــر المحكمة أنهــا أخذت بموقــف الطرفين فهي اســتجابت للمنظمات الحقوقية الني اجتهدت بالادعاء على الضابط المتهم في القضية نفســها أنور رســان، والتي ألحق بها إياد الغريب لاحقاً، وأرضت المعتقلين الســوريين ممن لاقوا أصنــاف العذاب في أقبية المخابــرا­ت. مــن ناحية أخرى راعــت الجهة المتضامنــ­ة مع المحكوم حين تهاونت بمــدة الحكم الذي يصل أقصاه إلى 11 عاما، واكتفت فــي أقل مــن خمس ســنوات حــن لَحظَــت إدلاء المتهم بشــهادته طواعية، وتقديمــه معلومات مفيدة للجهــات الألمانية، فكيف يمكن استخدام شهادته الطوعية في إدانته.

المحكمــة علّلــت قرار حكمهــا بأن جــزءا منه جاءً لتســبب المتهم باعتقال 30 شخصا! دون توضيح مقنع لآلية إحصاء العدد بالضبط إلا إذا جاء على لسان المتهم وحينها تصلح القصة لسرد حكاية ولا تســتقيم لبناء حكم محكمة. إذ كيف يمكــن التأكد من مصير هؤلاء بعد أن أوصلهم المتّهم إلى باب الفرع؟! تســرد الروايات أن الغريب رافــق إحدى حافلات الاعتقــال بعد إحدى مظاهــرات دوما والتي حضرهــا على غير العــادة جميع عناصر الفرع مع رئيســهم حافظ مخلوف. ولكن، من الذي يستطيع الآن تأكيد المصير الدقيق لهؤلاء الذين اُتهــم إياد بتعريضهــم للاعتقال؟ ربما خضع كُّلهم أو قســم منهم للتعذيب الرهيب حتى الموت، وربما لم يحدث ذلك، على اعتبار أن الحادثــة تمت خريف 2011 وحينها كانــت أجهزة الأمن تحاول أحيانــاً إظهار بعض مــن ليونة غير معهودة يفســرها الســوريون بخشية النظام في البدايات من ردود الفعل الدولية.

ولم تواجه محكمة كوبلنز أي تحفظ عليها قبل إشهارها الحكم، إذ كان من الصعوبة بمكان إبداء أي ملاحظات على مســارها، على اعتبار أن أي تحفظ إنما يمكن تفســيره من باب استنكار مبدأ تقديم المجرمين إلى العدالة، وبالتالي فإن أي تحفظ هو مستهجن، خاصة وأن المانيــا وليــس غيرها، هــي صاحبة الولاية على هــذه المحكمة، وبالتالــي فإن الحكم بالتأكيد مدروس بعناية وتضاهي دقة الألمان في صناعة المرسيدس.

ما هي زوايا المآخذ على الحادثة؟

ظلت وســائل الإعلام تدوّر زوايا المعلومات الشحيحة الصادرة عــن محكمة كوبلنز، وربما تعمدت ذلــك بقصد الحفاظ على الإثارة المطلوبــة والتــي أرادت المحكمة توظيفها لتكون لهــا «ماركة» لاحقاً فأطلقــت في أكثر من موقف عليها صفة «التاريخية» وســارع وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بالترحيب بصدور الحكم، وقال في تغريدة «إنه أول حكم يحاســب مسؤولين عن التعذيب في سوريا» مشيرا إلى «الدلالة الرمزية العالية» له لدى السوريين.

أتفهم شــخصياً تنافس الدول الكبيرة لحيازة قصب السبق في مثــل تلك الحالات بغض النظر عن النتائج المترتبة على ذلك )معركة الباغوز والإعــان الأمريكي فــي القضاء المبرم علــى تنظيم الدولة نموذج ايضاً( ربما لهذا السبب رمت المحكمة الطعم لوسائل الإعلام العالميــة وتلقفته الأخيرة دون تدقيق تقتضيه المهنة، فالخبر عنوان رئيســي )ضــاربويصع­بتفويتــه،فالمتّهمضابط أمــن كبير ومســؤول في أكثر دوائر أمن النظام الســوري قســوة، وظل السؤال عن كيفية وصول هذا الصيد الثمين مبهماً، حتى خُيّل للبعض أن عملية كوماندوس ألمانية محبوكة تمكنت من اصطياده. يقول أحد الإعلاميين «إن الإيحاءات المحيطة كانت مثيرة إلى درجة أن شــكوكاً ســاورت الحاضرين أن الشــخص لا بد وأن يكون على مستوى مدير إدارة المخابرات العامة في سوريا او ما يوازيه» !

في ظل غياب اســتراتيج­ية واضحة للحل في سوريا، ولأسباب تخــص تدخّل دول كثيرة في ســوريا، فمن هي الجهــة المخولة في ضبــط اتجاهات العدالــة؟ ومن هي الجهة صاحبــة الصلاحية في مراقبــة ســير العدالة بحيــث لا يجد الســوريون أنفســهم ضحايا أكثر من مرة؟ وبحيث ننأى بأنفســنا عن تسييس القرارات التقنية الخاصــة فــي المحاكــم أو غيرهــا لأنهــا فــي النهاية تعنــي حرية أشخاص ومصير مجتمع.

مسار العدالة

يدرك الســوريون أن مســار العدالة فــي حالتهم مــا زال طويلا، خاصة وأن النظام الســوري وداعموه ما زالــوا يواصلون القصف ومــا زال الشــبيحة يمارســون القتــل والاغتصــا­ب والتعفيــش والاعتقــا­ل، فالوقــت مــا زال غيــر مناســب لتطبيــق مبــدأ العدالة الانتقاليـ­ـة طالمــا أن الحرب لم تضــع أوزارها بعد، وطالمــا أن كثيرا مــن المطلوبين للعدالة يصعب إحضارهم موجــوداً إلى المحاكم لهذا الســبب أو ذاك، فمــن الحكمــة أن لا نندفع بالعاطفــة للانجرار إلى محاكمات انتقائية لأشــخاص فقط لأنهم ينتمون إلى أجهزة الأمن أو الجيش المعفّش، ووفق هذا المبدأ على غالبية السوريين أن يهيئوا أنفســهم للمحاكمة باعتبارهــ­م عملوا في مؤسســات تتبع للنظام الســفاح، ســواء كانت مدنية أم عســكرية أم أمنية فكلهــا تتقاطع بنهايتها في وظيفتها وتصب في خدمة الديكتاتور أخيراً.

صمد الســوريون عشر ســنوات وهم الآن يتوجســون من خيبة أمــل أخرى تخــص محاكمــة جلاديهم وفق شــروط غيــر مكتملة وأكثر ما يخشــونه أن يتم تقديم قرابين بالنيابة عن النظام وتهييج الإعلام لإقناعنا أنهم جزء منه، خاصة وان محكمة كوبلنز ستحدد بالتأكيد أطر المحاكمــا­ت اللاحقة والتي يتمنى الســوريون أن تبدأ مجرياتها من المجرمين الحقيقيين ومن الأقرب إلى الأبعد من مراكز قرار دوائر النظام وليس العكس.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom